لنتصور هذه القصة الحزينة التي تتكرر في اليوم الواحد عشرات المرات، لنتصور أن فقيرا أصيب بمرض فقرر أن يذهب إلى المستشفى، ولنتصور حجم المعاناة التي سيمر بها هذا الفقير في رحلته الاستشفائية هذه.
ستبدأ معاناة هذا المريض الفقير بالبحث عما يكفي من مال لتسديد تكاليف هذه الرحلة العلاجية، فهذا المريض سينفق مالا على التنقل بين سكنه والمستشفى،
وسيشترى من بعد ذلك كل شيء يتعلق بعلاجه، بما في ذلك الإبرة، والقفازات التي سيضعها الطبيب على يديه، والشفرة التي سيقطع بها أشرطة الشاش.
ولن تتوقف مشقة هذا المريض الفقير عند الكلفة المالية للعلاج، رغم ما تتسبب فيه تلك الكلفة من مشقة ومن إخلال بميزانيته المتواضعة، فهناك مشقة أخرى تتعلق بصعوبة التنقل في سيارات الأجرة، وكذلك بصعوبة مقابلة الطبيب في مستشفى عام.
الكارثة أن هذا المريض الفقير الذي قد ينفق كل مدخراته في رحلة العلاج هذه، والذي قد يلجأ إلى الاستدانة لتغطية بقية التكاليف، هذا بالإضافة إلى ما سيبذل من جهد عضلي ونفسي كبير، الكارثة أن هذا المريض الفقير قد ينتهي به الأمر إلى شراء دواء مزور من إحدى الصيدليات، إن لم يتسبب في تفاقم مرضه، فإنه بالتأكيد لن يؤدي إلى شفائه من المرض.
يقول تقرير حكومي سري حصل عليه موقع الأخبار بأن 30% من الأدوية المتداولة في موريتانيا وفي شبه المنطقة هي أدوية مزورة.
ويقول نفس التقرير بأن 60 إلى 100 ألف طن من الأدوية المزورة والفاسدة مخزنة في موريتانيا.
إننا أمام كارثة حقيقية تستدعي التحرك الفوري والعاجل للوقوف في وجهها، وفي وجوه تجار الموت الذين يغشوننا حتى في أوقات المرض، وهي الأوقات التي كان من المفترض بها أن تكون أوقات رحمة وشفقة وتعاطف بين الناس، وأوقات لتذكر الموت وللزهد في الدنيا، والتوقف بالتالي عن تحصيل المزيد من الأرباح على جثث المزيد من الضحايا والقتلى.
إن هناك فوضي كبيرة في استيراد وتوزيع وبيع الأدوية علينا أن نقف في وجهها، يقول نفس التقرير بأن موريتانيا التي لا يصل عدد سكانها إلى أربعة ملايين توجد بها 30 شركة لتوزيع الأدوية، في حين أن السنغال التي يبلغ تعداد سكانها 14 مليون نسمة ( ما يقارب أربعة أضعاف سكان موريتانيا) لا يوجد بها من الموزعين الكبار إلا ستة، وساحل العاج التي يبلغ عدد سكانها 19 مليون نسمة ( ما يزيد على سكان موريتانيا خمس مرات) لا يوجد بها إلا خمسة من الموزعين الكبار.
في موريتانيا هنا فوضى كل شيء، هناك فوضى في عدد موزعي الأدوية، وهناك فوضى في عدد الصيدليات، وهناك ضعف في الرقابة على الأدوية، وهناك فساد في قطاع الصحة، وهناك جشع وانهيار للقيم لدى المجتمع، وقد أدى كل ذلك في المحصلة النهائية إلى تزايد عدد من يمتهنون تجارة الموت في بلادنا، وإلى رواج تجارة الأغذية والأدوية الفاسدة والمزورة والمغشوشة والمنتهية الصلاحية.
ولم لا تروج هذه التجارة في مجتمع لا تحكمه أخلاق ولا قانون، وقد أصبح شغل جل أهله هو البحث عن المزيد من المال، ومن المعلوم بأن تجارة الأدوية المزورة أصبحت تحقق أرباحا تفوق أضعاف المرات ما تحققه تجارة المخدرات والتي تحقق هي بدورها أرباحا خيالية.
هناك أرباح طائلة يحققها تجار الموت في موريتانيا على أشلاء المزيد من جثث الموريتانيين الفقراء، ولن يتوقف أولئك عن تجارتهم المربحة إلا إذا وقفنا صفا واحدا في محاربتهم وفي محاربة تجارتهم القذرة.
الميسورون من أهل هذه البلاد يذهبون في العادة إلى الخارج للعلاج، وفي الحالات التي يضطرون فيها للعلاج هنا، فإنهم يستوردون الأدوية من الخارج، ولذا يصعب أن تجد اليوم موريتانيا قادما من إحدى الدول المجاورة أو من فرنسا إلا ويحمل معه أدوية لأقارب أو معارف مرضى أوصوه بها. أما غالبية المواطنين فليس أمامهم إلا أن يتعالجوا هنا، وأن يشتروا الأدوية من هنا، مع احتمال قد يصل إلى 30% أن يكون الدواء الذي اشتروه بمدخراتهم أو بمال اقترضوه هو من الأدوية المزورة.
إن مشكلة الدواء المزور لا تتوقف عند كونه لا يشفي من المرض إن لم يتسبب في تفاقمه، بل إن مشاكله تمتد لتقضي على ما بقى من ثقة لدى المريض في الدواء مع ما في ذلك من خطورة على بلد كبلدنا ما تزال نسبة كبيرة من مرضاه تلجأ إلى المشعوذين للعلاج.
إن الدواء المزور سيؤدي على الأقل إلى عدم الشفاء من المرض، وبالتالي إلى انهيار الثقة بين المريض والدواء وهو ما سيعجل أفواجا جديدة من المرضى تولي وجهها شطر المشعوذين وإلى طائفة أخرى من تجار الموت ، قد تكون ميزتهم الوحيدة هي أنهم يبيعون الموت بسعر أقل من السعر الذي يبيعه بها تجار الأدوية المزورة.
لقد آن الأوان لأن نقف معا للحد من الأدوية المزورة في بلادنا، فهل هناك من هو على استعداد للمشاركة في عمل من هذا القبيل؟
حفظ الله موريتانيا..