من أستراليا إلى ألمانيا إلى هولندا إلى بلجيكا إلى النرويج إلى السويد وحتى إنجلترا وغيرها من الدول الغربية، حيث أصبح الإعلام العالمي يشهد ويتداول صوراً يومية لبعض من رؤساء الحكومات وهو إما فى طريقه إلى العمل ممتطياً دراجة هوائية، أو مستقلاً عربة مترو، أو مشيا على الأقدام، بينما قد تطل علينا الملكة وهي تتسوق صحبة أحفادها، أو وزيرة متجولة بأحد المتنزهات، أو مستشارة ألمانيا التي لم تحرص على تغيير وحدتها السكنية بإحدى البنايات، بينما أحد المسؤولين فى أحد المطاعم المتواضعة، أو أحد القادة فى أحد الاحتفالات وسط المواطنين، إلى غيره.. مما يؤكد أن نشر العدل قد عاد على هؤلاء وأولئك براحة البال، مثلما عاد على شعوبهم بالرفاهية والاستقرار.
بينما على الضفة الأخرى، قد تعرف التكلفة المادية لمواكب سيارات المسؤولين فى بلداننا نحن تكاليفا باهظة، حتى أنها لا تتناسب أبداً مع الدخل القومى لدولنا، ذلك أن الأمر أصبح يتطلب الآن سيارات من نوع مختلف عن السابق، حيث أنها تكون مصفحة ومجهزة بتكنولوجيا فائقة وأجهزة إرسال واستقبال بما يتناسب مع تطور أساليب الإرهاب، الخ.. وكان من الممكن الاستغناء عن كل ذلك، لو أن هذا المسؤول أو ذاك كان على أقل تقدير عادلاً خلال أدائه الوظيفي، أو أنه يستحق هذه المكانة التى وصل أو اوصل إليها بفعل فاعل.
كما أني أتصور أن مشكلة أي مسؤول من مسؤولينا مع المواطنين ليست أمنية بقدر ما هي مشكلة تحقيق مصالح الناس وحل مشاكلهم، حيث أنه فى الغالب لن يكون مستهدفاً بالشر بقدر الحاجة إليه للتوقيع على طلبات، أو للاستماع إلى مشاكل من سوف يطاردونه أينما ذهب ويتكلمون عليه لهذا الغرض. وهي قضية فى حد ذاتها تشير إلى أن هناك مشكلة ما بين المواطن وحكومته، نتج عنها وقف حال المواطن، الذى يظل متنقلا معظم الوقت بين الإدارات لإنهاء أبسط قضاياه.
ولذا إنها فرصة عظيمة للتطبيع القسري بين المواطنين والمسؤولين، بتعامل المسؤول مع الشارع رغماً عنه من خلال استخدامه وسائل المواصلات العامة، ومشاركته فى الاحتفالات العامة، إلى غير ذلك من الأمور التى تجعله يعيش قضايا الناس على الطبيعة، بدلاً من تلك الأبراج العاجية التى يعيشون فيها، ما بين مكاتب وسيارات وفنادق وقصور، وطائرات تطير بالوزراء، تلتهم أموالاً طائلة من خزينة الدولة التى هي حقيقة وحكما أموال الناس وضرائبهم.
فقد تكون هناك بعض المشاكل أو التهديدات الأمنية التى تؤرق هذا المسؤول أو ذاك، إلا أن تحقيق العدل بين المواطنين أو حتى محاولة تحقيقه، سوف يحد كثيراً من نسبة هذا التهديد، ذلك أنه سوف يكون فى حماية عامة الناس، الذين يرون فيه رجلاً صالحاً ومصلحا، وهو ما نراه من تفاعل بين الطرفين فى مثل تلك الدول المتقدمة كما اشرنا آنفا، والتى تقوم بتصنيع مثل هذه السيارات وهذه التكنولوجيا، لكن يبدو واضحاً أنه يتم تصنيعها لنا نحن فقط، إلا أنهم لا يستخدمونها لعدم حاجتهم إليها!!
يجب أن نعي أن مثل هذه المواكب الرسمية، من سيارات وموتوسيكلات وسجاد أحمر وطويل العمر يطَوّل عمره، وطائرات استطلاع، وطائرات حماية، واستنفار، وإعلان حالة التأهب، ورفع درجة الاستعداد الخ.. كلها أمور قد عفا عليها الزمن فى بلدان عديدة من تلك البلدان التى حققت الرخاء لمواطنيها، بما يؤكد الربط بين الاقتصاد والأمن من جهة، وبين الحرية والأمن من جهة أخرى . وقد نتج عن ذلك توفير موازنات كبيرة جداً كان يتم إنفاقها على مثل هذه الأوضاع، التى لم تمنع الضرر حين وقوعه أبداً نتيجة تخمة المظالم التي عانتها الشعوب.
هي رسالتي أزفها إلى بلدي موريتانيا، من بلاد الغرب- فرنسا تحديدا، المتواجد بها حاليا، فحواها مقولة رسول كسرى ملك الفرس حينما ذهب يبحث عن قصر الخليفة العادل عمر بن الخطاب، فلم يجد سوى شجرة ينام تحتها الخليفة، فقال قولته المشهورة التى سجلها له التاريخ (حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ يا عمر). لننطلق اذن من ممارسات الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز والذي قال (انثروا القمح على قمم الجبال، لكيلا يُقال جاع طير فى بلاد المسلمين) وذلك بعد القضاء على الفقر، لدرجة أن الشكوى أصبحت من عدم وجود أماكن لتخزين الأموال.
وختاما إن تكلفة الظلم أعلى بكثير من تكلفة تحقيق العدل، ذلك أن أمر الظلم لا يتوقف أمام تكلفة الأمن وتكنولوجيا الأمن أو تكلفة تلك المواكب وما تسببه من معوقات للشارع وحركة الإنتاج بصفة عامة، بل الأمر يمتد إلى التوسع فى إجراءات الأمن وأعداد رجال الأمن والتحقيقات والمحاكمات وإنشاء السجون والمعتقلات والإنفاق على هؤلاء وأولئك، ناهيك عن الفساد فى كل ذلك، وانعدام الشفافية وغياب الرقابة والضمير، مما يؤكد أن تكلفة الظلم ستظل غالية.. ومرتعه وخيم على الظالمين والفاسدين أينما حلوا وارتحلوا !!!يات،،،