كانت العشر الأواخر من رمضان الفارط شاهدة على استمرار قوات الاحتلال الإسرائيلي في سياستها القائمة على قضم أراضي القدس واستفزاز سكانه، حيث كان حي الشيخ جراح مع موعد لحكم المحكمة العليا الإسرائيلية -تأجل لشهر- إذ كان يُنتظر أن تحكم في أحقية بعض العائلات في مساكنها التي تسكنها قبل قيام الكيان الإسرائيلي وإعلان دولته في: 1948، ودون الغوض في تاريخ الحي المعروف وتناول أصل التسمية والجدل المحيط بها، فإن الحي كان منطلقا لأحداث لا تزال تتدحرج في المنطقة، فمن خلال مساندة سكان القدس عموما للعائلات المهددة بالطرد من الحي ودعمها، زادت السلطات الاستعمارية استفزازاتها للمصلين والقائمين حول المسجد الأقصى، وضيقت عليهم متعة العبادة بالمسجد المبارك حوله، ثم بدأت اقتحامه وطرد المصلين والمعتكفين فيه، لتنشر استفزازها وتعممه على كل المسلمين، فتباينت المواقف واختلفت ردات الفعل، فطلب البعض من المحتل ضبط النفس! ورجاه البعض الآخر أن يوقف تعديه على المقدسات!! وكثر الصمت وتدثرت به الغالبية من المسلمين!!!، غير أن أهل غزة العزة لم يرضوا أن يرجوا المحتل، ولا حتى أن يتوقعوا منه خيرا فتعاملوا معه بلغته، وتساموا على قلة ذات اليد وضعف العدة، واتكلوا على الله واخلصوا له النية حيث أصدر قائد أركان كتائب عز الدين القسام من قلب غزة النابض بيانه اللافت في: 06/05 الجاري الذي أنذر فيه الاحتلال، وحيا سكان حي الشيخ جراح، ليقوم الناطق باسم الكتائب في: 10/05 الجاري بتحديد ساعة الصفر لقصف مدن ومستوطنات الاحتلال إن لم يلتزم المحتل بنذير قائد الأركان، وهو ما حدث بالفعل حيث رمت غزة العدو عن قوس واحدة.
يظن السامع غير الخبير بغزة العزة أننا نتحدث عن إحدى دولنا الكبيرة ذات الحدود الممتدة، والكثافة السكانية العالية والموارد الكبيرة والمتنوعة، غير أن الواقع مخالف لذلك كثيرا، فقطاع غزة الصامد هو شريط ضيق يقع في أقصى الجنوب الغربي لأرض فلسطين التاريخية، ويبلغ طوله 41 كم، ويتفاوت عرضه بين 6-12 كم، وحسب إحصائيات 2014 يقطنه 1.7 مليون نسمة، وتحده مصر من الجنوب، والبحر الأبيض المتوسط من الغرب، والكيان الغاصب من الشمال والشرق، وهو محاصر من كافة الجهات منذ سيطرة حركة حماس على مقاليد السلطة فيه 2007.
يجتهد الإسرائيليون هذه الأيام في استخدام كل ما في مخازنهم العسكرية، وما يجود به شركاؤهم في الشر، من أسلحة دقيقة وقوية لاستهداف هذه المساحة الضيقة المكتظة، في حين يعض الصابرون في غزة على جروحهم، ويردون الصاع صاعات للمدن والمستعمرات والتجمعات الاستيطانية في غلاف غزة، وفي كافة مناطق فلسطين المحتلة دون نصير ولا دعم واضح مؤثر من أخ أو صديق أو حتى عدو عدو، إيمانا وتمسكا بقوله تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿139﴾ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿140﴾ آل عمران
فتعطلت حياة الإسرائيليين وتوقفت مدارسهم وملاهيهم، وذاقوا لأول مرة طعم الحرب، والقادم أدهى وأمر بعون الله وقوته، في ظل عجز القادرين من العرب والمسلمين على الفعل والمبادرة، عن تقديم ضرورات الصمود والمناورة لمن استعانوا بأنابيب المياه، ومخزون السفن الغارقة وبقايا الصواريخ والقذائف لرد العدوان، فاستخدموا ما استطاعوا الحصول عليه ولم يدخروا جهدا ولا ركنوا للظالمين، وكأن أبطال غزة في حربهم هذه وإعدادهم للقادم يستحضرون بطولات سلف مضى، وذكرى آباء عُرفوا بشجاعتهم وحسن فعالهم؛ فهاهو أبو بصير رضوان الله عليه يأتي المدينة مهاجرا بُعيد مقدم المصطفى صلى الله عليه وسلم إليها من الفتح المبين -صلح الحديبية- ليرده مع أول مُطالبَينِ به تنفيذا لبنود الصلح القاضية برد من جاء إلى المسلمين مهاجرا، وبعد ذهاب أبا بصير مع الرجلين استطاع قتل أحدهما وطارد الآخر إلى المدينة لكنه لقي الحريص على المؤمنين؛ الرحيم بهم؛ الموفي بعهده؛ الراضي بقدر ربه؛ الموقن بحسن تدبيره، فقال له قولته المشهورة المحفورة في القلوب قبل العقول عليه صلاة ربي وسلامه؛ بعد أن بادره أبو بصير قائلا: يا نَبِيَّ اللَّهِ، قدْ -واللَّهِ- أوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ؛ قدْ رَدَدْتَنِي إليهِم، ثُمَّ أنْجَانِي اللَّهُ منهمْ، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ويْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ! لو كانَ له أحَدٌ، ففهم الصحابي الجليل أن النبي ملتزم بالوفاء بما عاهد عليه مشركي مكة، غير أن رده عليه هذا كان موجها ومرشدا لفعل لم تمنعه المعاهدة، بل به تتوازن بنودها وتتعادل أطرافها وتتضح معالم الفتح المبين، ويسود الحق ربوع الجزيرة، فبدأ المستضعفون من المسلمين ممن منعتهم بنود الصلح من القدوم إلى المدينة يجتمعون بأبي بصير بسِيف البحر، ويشنون الغارة على قوافل قريش فصادروا الأموال وقتلوا الرجال، فلما اكتوت قريش بِصَلَفِها وحميتها وعلمت ألا عاصم لتجارتها إلا بالتخلي عن شرطها الجائر، ناشدت النبي صلى الله عليه وسلم؛ الله والرحم، أن يوقف هذه المجوعة ومن أتاه من المسلمين فلن يطالبوه بتسليمه، فكانت بداية النهاية لقوة قريش وغطرستها، وهو ما نلاحظ وبمؤشرات لا تخطئها العين؛ أن العدو في هذه الجولة بدأ يعيشه، فقد فَقَدَ كثيرا من هيبته وبدت جبهته الداخلية هشة ورخوة، حيث لا تزال الصواريخ تتساقط على المدن المغتصبة في ظل حيرة القبة الحديدة وضعف فاعليتها، رغم إحاطتها بغزة وتوالي القصف الجوي والبحري والبري على القطاع بشكل دائم، مع تشتت جهد القوات الأمنية والعسكرية الاستعمارية بين التصدي للصواريخ ومجابهة حالات العصيان المدني في كافة المدن ذات التواجد العربي إضافة لمناطق الضفة الغربية، و الاستعداد لإمكانية قيامه بعمليات توغل محدودة لأطراف القطاع رغم رعب أفراد وقادة جيش الاحتلال من ذلك الاحتمال، ومع مراوحة العمليات العسكرية الإسرائيلية مكانها، واقتصارها على التدمير والهدم واستهداف المدنيين، وعجزها عن حماية التجمعات العسكرية والحضرية داخل الخط الأخطر، يكون الاحتلال دخل مأزقا جديدا يثير شكوكا كبيرة في مدى قابليته للاستمرار، ويكاد يتأكد للجميع عجزه عن التمدد، بعد انكشاف هشاشة جبهته الداخلية ومحدودية تأثير قوته الباطشة في معادلة تحمل الألم والرعب، رغم وقوف أبطال غزة وحدهم وحرص من تجرأ على مساندتهم أن تكون مساندته لهم مقتصرة على التظاهر والخطابة، ومساعدته لا تتجاوز الحاجات الإنسانية من مأكل ومشرب، إلا أن أمر الله آت، وسننه باقية، وقوته شاملة ونصره واقع ومتحقق لأوليائه.
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿21﴾ يوسف
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿٥﴾وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ. القصص
Facebook Twitter WhatsApp انشر