قلت وأكررها هنا بأن الديمقراطية الليبرالية منتوج غربي خالص فُرض على العرب والمسلمين تأكيدا لأطروحة ابن خلدون في أن "المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب". قلت وأكررها هنا بأن ما يجري من إرهاصات لبناء أنظمة ديمقراطية ليبرالية في العالم العربي ليس نابعا من إرادة الحكام العرب ولا من نضالات الشعوب، بل هو جزء من إفرازات النظام الدولي السائد منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الثنائية القطبية. وقلت وأكررها هنا بأن الديمقراطية وصفة "طبية" خرجت إلينا من المختبرات الدوائية الغربية.
وقلت إننا نستعملها دون أن نعرف موادها و مكوناتها مثلما نستعمل غيرها من الأدوية القادمة من هناك طبقا لدليل الاستخدام المرافق لها.
وهذا لا يعني أن الحريات ليست مهمة أو أنها ليست مطلبا لجماهيرنا، ولا يعني غياب الشورى والحريات في مراحل معينة من نظام الحكم في الموروث العربي والإسلامي. ولكنه بالمقابل لا يعني أن الديمقراطية نظام كامل لا عيب فيه ولا خلل.
عندما يقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "ونستون تشرشل" بأن "الديمقراطية هي أسوأ الأحكام باستثناء غيرها"، فإنه يعي ما يقول. و هو أدرى بمحاسن الديمقراطية ومساوئها.
واليوم، هناك شبه اتفاق داخل النخب العالمية على أن الديمقراطية بدأت تفقد بريقها وتظهر نواقصها مع عزوف المواطنين عنها، وتراجع دور الأحزاب، ونزع الثقة من "مؤسسات التمثيل"، وإطلاق العنان لحريات "مسخ" الإنسان وهدم المجتمعات في الغرب حيث نشأت الديمقراطية وترعرعت واستوت على سوقها. ثم جاءت كارثة "كورونا" لتفرض القيود على الحريات العامة والخاصة، وتغير القوانين، وتلقي بظلالها على الانتخابات. أمريكا وقانون الأمن الشامل في فرنسا نموذجا.. ولا أحد ينفي أن عالم ما بعد وباء "كورونا" سيكون غير العالم قبله.
منذ أن اهتز وتداعى نظام القطب الواحد، هناك تنافس قوي أو حرب تدور رحاها بين الحضارات والثقافات والقيم والمصالح لرسم نظام دولي جديد. و في هذا الإطار، تبدو المواجهة حامية الوطيس بين شرعية "الانتخاب" وشرعية "الإنجاز". بمعنى أن هناك أحكاما تستمد استقرارها ونموها من محاسن "الانجاز" مثل الصين الشعبية وغيرها من الدول الصاعدة في العالم. روسيا و تركيا مثلا في أوروبا و روندا في إفريقيا ونمور جنوب شرق آسيا... هذه كلها دول تعتمد أساسا على "الإنجاز"، وتكتفي من الديمقراطية بالديكور.. كل ما قيل في العقود الثلاثة الماضية عن "حوار الحضارات" و "تلاقي الديانات" و "تفوق الديمقراطيات" بدأ ينكشف زيفه و بطلانه. إن العالم يسير باتجاه خلق توازنات جديدة و رؤى جديدة و معادلات سياسية جديدة.. الأولوية فيها ستكون لقوة "الإنجاز" لا وهَن "المجاز"، و فضيلة "الالتزام" لا نقيصة "الإبهام".
عندما تسترق السمع لحديث المواطن في جميع أنحاء العالم وخاصة في الوطن العربي وإفريقيا، تجده - في الغالب - يطالب بالانجازات أكثر مما يطالب بالانتخابات. و قد لا تكون مقولة "التزوير" كافيةً لتفسير الظاهرة. هناك أسباب وتفسيرات أكثر من ذلك وأعمق. الانتخابات سليمة في أمريكا و فرنسا والغرب عموما؛ ولكن المواطن في هذه الدول لا زال يكافح طلبا للمساواة والعدالة والشفافية والعيش الكريم.
مقتضى القول هنا إنه على المفكرين العرب والباحثين ومراكز الدراسات إعادة النظر مليًّا في موضوع أي "حكامة" في الوطن العربي العزيز؟ و إن شئتم أي ديمقراطية؟ كيف تكون الديمقراطية الليبرالية في غياب الطبقة الوسطى؟ كيف يكون التعامل مع البيئة المجتمعية الحاضنة للانتخابات بما فيها من قبائل ومذاهب وأعراق؟ كيف يكون التعامل مع القبيلة والمال، وكلاهما شر لا بد منه في مجال الديمقراطية والانتخابات في البلدان العربية؟ كيف نتعامل مع الأمية المرتفعة والفقر وتخلف العقليات إلى غير ذلك من معوقات موضوعية و خارجة عن إرادة الفاعلين مهما بلغوا من الورع والاستقامة والدين؟
هذه الأسئلة تحتاج إلى مقاربات أكثر جدية و عمق مما نشاهده الآن من مواقف تقلد الغرب و تحاكيه وتمضغ أطروحاته ونظرياته وخلاصاته. الوطن العربي يحتاج إلى تفكير مستقل و ابتكار و إبداع لرسم ملامح وأسس نظام حكم يتلاءم و موروثه الثقافي و قيمه و حقيقة مجتمعاته.. أم أن طرح مثل هذه الآراء والأسئلة "ردة" في ملة الديمقراطيين الجدد؟