ما إن انتهى الزعيم البوركينابي الراحل، النقيب توماس سانكارا، من خطابه الترحيبي المطول والمفعم بمشاعر الثورة والتحرر ومناهضة الهيمنة الغربية على القارة الإفريقية، بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران لواغادوغو في نوفمبر 1986؛ حتى بدت ملامح عدم الارتياح على هذا الأخير لدرجة أنه عدل عن إلقاء خطاب رسمي أعده معاونوه بعناية، وارتجل خطابا أكثر "انسجاما" مع سخونة السياق الدبلوماسي الذي أحدثه خطاب مضيفه الإفريقي الشاب.
نهض الرئيس ميتيران وصفق مطولا عند انتهاء خطاب سانكارا؛ قبل أن يلقي، بدوره، خطابا جوابيا مرتجلا، من أبرز ما جاء فيه:
"السيد الرئيس، سيداتي سادتي،
لقد دفعني الرئيس سانكارا إلى الحديث عن مواضيع جدية تتجاوز مجرد رد المجاملات وأدبيات المودة والصداقة؛ حيث أثار مشاكل سياسية بالغة الجدية، وهي مشاكل حقيقية وأنا أشكره على ذلك. وعلى كل حال، مادام قد اختار هذا الأسلوب فليسمح لي بذلك أنا أيضا، دون أن يكون في هذا حرج من آي نوع..
إن المبادئ التي تقوم عليها قناعاتنا يمكن أن يقدم حلولا لكل واحد من تلك النزاعات التي تحدث عنها السيد الرئيس في خطابه..
ففي إفريقيا الجنوبية يجب أن يتيح حق الأفراد لهذا الشعب ممارسة حقوقه في شموليتها وخاصة حقه في السيادة على نفسه.
وفي الصحراء الغربية بجب أن يتمكن السكان، بعد تأكد الأمم المتحدة من هوياتهم، من التصويت وتقرير مصيرهم والتعبير عما يريدون بكل حرية.
يجب أن تخضع إسرائيل للقانون الدولي وتعترف للفلسطينيين بحقهم في الوجود على أرضهم، كما يجب الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وضمان هذا الحق.
لكن دعونا نتوقف قليلا عند مبدأ حق تقرير المصير؛ فهو الذي كان يلهمني حين كنت مسؤولا رسميا شابا، كما أنتم اليوم سيدي الرئيس، حيث تعرفت على بعض خصوصيات إفريقيا آنذاك.. كنت يومها في نفس المرحلة من العمر التي أنتم فيها اليوم تقريبا، حين شاء القدر أن يتم تكليفي ببحث مصير جزء من إفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية.. أعتقد أني فهمت يومها، ولم أكن وحدي في ذلك، أنه لابد لهذه الشعوب من تقرير مصيرها بكل حرية إن كنّا نريد تأمين الانسجام المستقبلي والتقيد بالمبادئ التي أثرتها للتو.. وهكذا بدأت المغامرة الكبرى.. بدأت بكوت ديفوار، كما هو معروف، وبدأت كذلك بفولتا العليا؛ بلدكم الذي تسمونه اليوم بوركينا فاسو، ومالي الذي كنّا نسميه - يومها - بلاد السودان.. بدأت برجال خلد التاريخ أسماءهم، من أمثال هوفوات بوانيي، ممادو كوناتي، لامين غي، سينغور، وآخرين.
لا أريد أن أطيل عليكم في الكلام في هذا الموضوع أكثر من اللازم لأنه نضال من نفس النوع.. نفس النضال بالضبط.. شعوب كانت تريد أن تعيش، تريد إثبات كرامتها، وأنتم تستلهمون نضالكم من ذلك، كما استلهمتم هذا الرمز الرائع، سيدي الرئيس، سيداتي سادتي في الطواقم القيادية ببوركينا فاسو؛ حين اخترتم لوطنكم هذه التسمية التي تعني أرض الرجال الشرفاء أو أرض الرجال الأحرار.. فالشرف يعني أولا احترام الذات واحترام الآخرين... وأنتم أهل لذلك دون شك.
السيد الرئيس، أيها السيدات والسادة،
ثقوا بأن فرنسا جاءت، بشكل علني، تقول لبوركينا فاسو، كما سبق لي أن قلت في البلدان الأخرى، إنها هنا، حاضرة... جاهزة ويجب التعاطي معها.
هكذا أشرح الأمور بشكل مبسط، ربما أطلت عليكم لكنني لم أكن لأسمع الرئيس سانكارا يطريني بكل هذه المجاملات الطيبة ثم أذهب للنوم...
هو مشاغب ألى حد ما، الرئيس سانكارا.. هذا صحيح؛ مستفز، ويطرح الكثير من الآسئلة وليس من السهل على من يتعامل معه أن ينام مرتاح البال؛ لكنني مثله تماما وإن كنت أزيد عليه بفارق 35 سنة.
أشكركم، سيادة الرئيس".