كثيرة هي الكلمات والمصطلحات التي تآمر عليها أطر ووجهاء هذه البلاد فأفرغوها من محتواها ومن مدلولها الأصلي، وحولوها من كلمات حسنة السمعة إلى كلمات سيئة السمعة والصيت، وتعد كلمة "مبادرة" من أكثر الكلمات التي ساءت سمعتها بسبب كثرة الاستخدام المبتذل الذي تعرضت له في العقد الأخير. هناك كلمات أخرى أصبحت مهددة في محتواها وفي مدلولها، ولكن هذه المرة ليس من طرف الوجهاء والأطر
وإنما من طرف الرئيس، وذلك لكثرة استخدامه لها في خطاباته، مع ابتعاده عن العمل بمضمونها، ومن هذه الكلمات المهددة من طرف الرئيس: التسامح؛ الإخاء؛ التعاون؛ التكافل؛ الإيثار.
إليكم بعض الفقرات القصيرة من خطابات الرئيس بمناسبة حلول الشهر الكريم:
"وأدعوكم إلي أن تجعلوا من رمضان مدرسة للعلم والعمل والتسامح والبذل."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2010
"ونتحلى فيه بأخلاق المؤمن الصادق مع ربه، والمواطن المخلص لوطنه وأمته، فنتخذه مناسبة لترسيخ قيم التراحم والعدل والإنصاف والإحسان."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2011
"وأدعوكم إلى استلهام معاني هذا الشهر المبارك والتخلق بما يرقى إليه من قيم الصدق والرحمة والتسامح والمحبة، حتى نتحلى بصفات المؤمن الصادق مع ربه المخلص لوطنه وأمته."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2012
"إن قيمنا الإسلامية، وتقاليدنا العريقة تعلمنا التكافل والتضامن في كل الأوقات وخاصة في هذا الشهر الكريم فلنجعله مناسبة للتسامح، وصلة الرحم وعيادة المريض ومساعدة المحتاج."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2013
"إن قيمنا الإسلامية العريقة تحثنا على التكافل والتآخي في كل وقت، وخاصة في هذا الشهر الكريم الذي تسمو فيه الأنفس فتصفو القلوب فيؤثر المؤمنون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2014
"إن المعاني السامية، المرتبطة بهذا الشهر العظيم تحثنا على التكافل، والصبر والتضامن ومواساة الفقراء تحقيقا لأخوة الإسلام وتعزيزا للوحدة الوطنية."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2015
"أدعوكم جميعا إلى اغتنام هذه الأيام المعدودات، لترسيخ روح الإخوة والتعاون، امتثالا لتعاليم ديننا الحنيف، وتعزيزا لوحدتنا الوطنية، في وجه دعاة التفرقة والفئوية."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2016
"إن رمضان مناسبة لتهذيب النفوس، والتحلي بالصبر وقيم التآخي، وتجسيد معاني الوحدة والتكافل."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2017
"إنني ادعوكم إلى مضاعفة العمل، في هذه الأيام المباركة، وإشاعة روح الأخوة والتعاون، والتصدي بالحكمة لدعوات التفرقة والفئوية، تجسيدا لقيم مجتمعنا الموريتاني، وتعزيزا لوحدتنا الوطنية."
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمناسبة رمضان 2018
تلكم كانت فقرات قصيرة من خطابات الرئيس محمد ولد عبد العزيز خلال السنوات الماضية، وهي خطابات كانت كلها تدعو إلى قيم فاضلة كالإخاء والتسامح والإيثار والتعاون، ولكن، المتأمل في تصرفات وقرارات وأفعال الرئيس خلال الشهر الكريم سيجدها في مجملها بعيدة كل البعد عن تجسيد تلك القيم، بل ومناقضة لها في كثير من الأحيان. وإذا ما اكتفينا بتصرفات وأفعال وقرارات الرئيس في العام 2018 فسنجد بأنها بعيدة كل البعد عن روح القيم الفاضة التي دعا لها في خطاباته السابقة وفي خطابه لهذا العام.
فأين هي قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار من إصرار الرئيس محمد ولد عبد العزيز في السير في مسار أحادي سيزيد من تعقيد الأزمة السياسية وسيضع البلاد أمام مخاطر جمة؟
وأين هي قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار من تعامل الرئيس محمد ولد عبد العزيز وحكومته مع المنمين في عام الجفاف هذا؟ بالمناسبة لقد أجمع نواب المعارضة والموالاة على فشل الحكومة في خطتها التي رسمت لمواجهة آثار الجفاف.
وأين هي قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار من توجيه تهم جديدة للشيخ محمد ولد غدة ولبقية المشمولين في الملف (غسيل أموال؛ تهرب ضريبي؛ التعدي على أملاك الشركاء)، مما يعني تمديد فترة احتجازه من جديد وذلك بعد وصول الأجل القانوني إلى حده الأقصى؟ ولماذا يستمر سجن هذا الشيخ لتسعة أشهر تقريبا دون أي محاكمة، فهل ذلك هو ما تدعو إليه قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار التي يدعو لها الرئيس مع كل رمضان جديد؟
وأين هي قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار من تعامل الرئيس ولد عبد العزيز وحكومته مع إضراب الأطباء الذي هددوا به منذ عامين، وأجلوه ثم أجلوه ثم جعلوه مؤقتا دون أن يجدوا أية ردة فعل إيجابية من الحكومة الشيء الذي أجبرهم على أن يخرجوا من مرحلة الإضراب المنقطع إلى الإضراب المتواصل.
فهل ترك المرضى يعانون في المستشفيات مع التلويح باستيراد أطباء من الخارج هي أفضل وسيلة لتجسيد قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار في هذا الشهر الكريم؟
على الأطباء المضربين أن يجسدوا تلك القيم الفاضلة التي يدعو لها الرئيس دون الأخذ بها، عليهم أن يجسدوها من خلال تنظيم استشارات مجانية للمرضى الفقراء في الأحياء الشعبية وخارج المستشفيات، وبذلك يكونوا قد أثبتوا بأنهم أكثر رأفة بالفقراء من "رئيس الفقراء" مع محافظتهم في الوقت نفسه على استمرار إضرابهم الشرعي والمشروع.
وأين هي قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار من تعامل الرئيس وحكومته مع احتجاجات العطش التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم؟
وإذا ما اكتفينا بمدينة واحدة كمدينة "تجكجة"، وهي من المدن الأكثر عطشا في البلاد فسنجد بأن تعامل الرئيس ولد عبد العزيز وحكومته مع عطش هذه المدينة لا يعكس مثقال ذرة من تلك القيم الفاضلة التي يدعو لها الرئيس في كل خطاب يلقيه بمناسبة حلول الشهر الكريم.
إليكم هذه المعلومة الصادمة : إن واحدا من أشهر مكاتب الدراسات، وهو مكتب فرنسي يستخدم الصور الفضائية لتحديد أماكن المياه، وله خبرة واسعة في المجال، وله دراسات شهيرة في السودان وتشاد وكينيا والعراق (كردستان). إن هذا المكتب بإمكانه أن يحدد أماكن المياه الجوفية وما إن كانت من بحيرات متصلة أو منفصلة في مساحة تصل إلى 100 كلم²، وكلفة هذه الدراسة لا تزيد على 50 مليون أوقية قديمة.
خمسون مليون أوقية قديمة تكفي لتحديد أماكن المياه في مقطع مساحته 100 كلم² من المساحة الإجمالية لولاية "تكانت"، ومع ذلك فالحكومة تبخل بهذا المبلغ الزهيد مما يعني بأن عطش "تجكجة" سيستمر طويلا، فأين هي قيم التسامح والإخاء والتعاون والإيثار من هذا البخل الحكومي الذي قد يؤدي إلى اختفاء واحات النخيل في هذه المدينة وإلى هجرة سكانها إلى مدن أخرى بسبب العطش؟
يبقى أن أقول ـ وهذا وجه آخر من غياب قيم الإيثار والتعاون وهو هذه المرة لا يتعلق بالرئيس ـ بأن هذه المدينة هي من أكثر المدن أطرا، ولو أنه تبرع مائة إطار وموظف كبير من المنحدرين من هذه المدينة ب500 ألف أوقية قديمة عن كل واحد، لكان بالإمكان إعداد هذه الدراسة التي يعتبر إعدادها هو الخطوة الأولى لحل مشكلة العطش في هذه المدينة.
إن أطر هذه المدينة لا يختلفون عن غيرهم من أطر المدن والولايات الأخرى، ولذلك فمن الصعب ـ وحتى لا أقول من المستحيل ـ أن يجتمعوا في "مبادرة" ذات نفع عام لمدينتهم ولولايتهم. إن قرائح أطر موريتانيا وإبداعاتهم لا تنضب أبدا عندما يتعلق الأمر بمبادرات التأييد والمساندة والدعوة لانتهاك الدستور، كالدعوة لمأمورية ثالثة، ولكن عندما يتعلق الأمر بمبادرات ذات نفع عام فإن قرائح الأطر تتعطل عن العمل بشكل كامل.
إننا لم نسمع في أي يوم من الأيام عن مجموعة من أطر مدينة أو قرية موريتانية ما اجتمعوا للتفكير والبحث عن أفضل السبل لتنمية قريتهم أو مدينتهم. لم نسمع يوما عن مجموعة من أطر مدينة أو قرية موريتانية قرروا أن يوحدوا جهودهم من أجل فتح مدرسة أو مركز صحي في قريتهم أو في مدينتهم . لم نسمع أنهم نظموا قافلة صحية واحدة أو مولوا دراسة لصالح مدينتهم.
ليت أطر ولاية "تكانت" ورجال أعمالها ووجهائها يكسروا هذه القاعدة، فيقرروا التكفل بتمويل دراسة لتحديد أماكن المياه في الولاية، فلو أنهم فعلوا ذلك لسنوا سنة حسنة، ولتركوا خلفهم عملا صالحا سيذكرون به.
رمضان كريم..
حفظ الله موريتانيا..