هناك ظاهرة لافتة لم يعد بالإمكان تجاهلها، وتتمثل هذه الظاهرة في الكيل بمكيالين في تعاملنا مع الأخطاء التي ترتكبها بعض النخب سواء كانت تلك النخب سياسية أو حقوقية أو ثقافية. ويمكن للمتتبع لما يكتب وينشر في مواقع التواصل الاجتماعي أن يلاحظ بأن هناك قسوة في محاسبة نخب بسبب انتماءاتها العرقية والشرائحية، وتساهلا في محاسبة نخب أخرى، ويطرح هذا التمييز في المحاسبة إشكالا كبيرا، فهل يعود سبب هذا التمييز غير المبرر في المحاسبة
إلى عنصرية خفية؟ وبعبارة أوضح فهل هو يعود إلى أننا نعتبر بأن هناك مواطنين قاصرين أو مواطنين من الدرجة الثانية غير مؤهلين للمحاسبة؟
بالأمس تناقلت بعض المواقع فقرات من مقابلة أجراها السيد إبراهيما مختار صار رئيس حزب التحالف من أجل العدالة والديمقراطية حركة التجديد مع صحيفة "سيد كوتيديان" السنغالية، ولم تثر تلك المقابلة أي ردود أفعال تذكر. الآن دعونا نتخيل أن المقابلة كانت مع الدكتور عبد السلام ولد حرمه رئيس حزب الصواب، وأنها كانت مع صحيفة عراقية، وأن الدكتور عبد السلام تحدث في تلك المقابلة عن سيطرة لحراطين على أهم المؤسسات الدستورية في البلاد : الجمعية الوطنية ـ المجلس الاقتصادي والاجتماعي ـ المجلس الدستوري، وأنه قال فيها أيضا بأن ذلك قد جاء على حساب الموريتانيين الزنوج.
لو كان الدكتور عبد السلام هو من قال هذا الكلام لقامت القيامة عند البعض، ولكن ما دام قد قاله رئيس حزب التحالف من أجل الديمقراطية صار إبراهيما مختار فإن هذا القول يجب أن يبتلع وأن يمر دون أي تعليق.
ولو أن عبد السلام قال مثل هذا الكلام في صحيفة أجنبية (عراقية مثلا) لسمعتم شيئا كثيرا عن الخيانة والعمالة، ولكن ما دام قائل هذا الكلام هو إبراهيما صار، وقد قاله في صحيفة سنغالية، فإن الأمر في هذه الحالة لا يعتبر خيانة ولا عمالة.
مثل هذه التصريحات الخطيرة تكررت ومع ذلك فقد كان يتم تجاهلها في كل مرة، ومن هذه التصريحات التي تم تجاهلها يمكن أن نذكر مقابلة كانت قد أجرتها "جون آفريك" في وقت سابق مع رئيس حركة "لا تلمس جنسيتي" عبدول بيران وان، وقد تمت ترجمتها من طرف موقع "آراء حرة". لقد قال عبدول بيران وان في هذه المقابلة: " في الوقت الذي نحن فيه على يقين بأننا نشكل الأغلبية بالمقارنة مع العرب البربر، لا يزال الزنوج الموريتانيون يتعرضون للتمييز في جميع القطاعات، وبما أننا مقتنعون بأن هناك تغييرا سياسيا حتميا في موريتانيا، لا نريد، عندما يأتي ذلك اليوم، أن يتفرق الزنوج، في أحزاب بقيادة العرب البرابرة أو الحراطين، ولهذا السبب لن ندخر جهدا لكي تكون جميع القوى الزنجية الموريتانية ممثلة بقطب واحد، قوي وموحد".
مثل هذه الخطابات العنصرية التي تصدر في بعض الأحيان من طرف بعض القادة السياسيين المنتمين إلى مكون معين يتم تجاهلها دائما، ولكنها لو صدرت من قادة سياسيين ينتمون إلى مكون آخر لحوسبوا عليها حسابا عسيرا، ولقامت القيامة في مواقع التواصل الاجتماعي.
ظاهرة أخرى لافتة، وهي أنه رغم اعترافنا جميعا بسوء الإدارة وببطش السلطات الأمنية إلا أنه عندما يحرم مواطن من شريحة معينة من جواز سفره فإن ذلك يتم تفسيره ـ وبشكل تلقائي ـ بأنه كان لأسباب عنصرية، ويتم إبعاد أي تفسير آخر : سوء الأداء الإداري أو العقاب على الموقف السياسي مثلا . ولكن عندما يتعلق الأمر بحرمان مواطن من شريحة معينة من جواز سفره ففي هذه الحالة تحضر تلك التفسيرات، مثلما حصل مع الشنقيطي ومع باباه سيدي عبد الله ومع غيرهم.
نفس الشيء يمكن أن نقوله عن تعامل السلطات الأمنية مع المحتجين، فقسوتها مع البعض يتم تفسيره بالعنصرية فقط، بينما يتم استبعاد العنصرية وتذكر بطش السلطات الأمنية عندما يكون من تعرض لبطشها من شريحة معينة.
تصورا مثلا بأن الشباب الذين تم تجريدهم من ثيابهم في مسيرات النصرة كانوا من شريحة معينة، لو أنهم كانوا كذلك لنسينا جميعا بطش السلطات الأمنية وسوء تعاملها، ولتذكرنا شيئا واحدا وهو عنصرية الدولة. لقد حمدتُ الله على أن أولئك الشباب الذين جردوا من ثيابهم في مشهد مهين وغير مسبوق كانوا من الشريحة المتهمة دون غيرها بالعنصرية، ولم يكونوا من شريحة أخرى، وكان ذلك من باب أخف الضررين، فلو كانوا من شريحة أخرى لربما تسبب ذلك في دخول البلاد في منزلق خطير، فمثل هذا الشحن العرقي والشرائحي الذي نعيشه اليوم قد وضع البلاد على حافة بركان قابل للانفجار في أي وقت.
أخطر ما في الأمر هو أن هذا التمييز في المحاسبة قد تجاوز السياسية ووصل إلى الدين، فأصبحنا في محاسبتنا للمواطنين الموريتانيين نميز بين المسلم والمسلم. فإذا كان ظهور مواطنة موريتانية من شريحة معينة لا تغطي شعر رأسها قد يقيم القيامة كما حدث مع ليلى ومنت الدرويش ومي فإن ظهور موريتانيات من شريحة أخرى بتلك الصورة لا يثير أي استغراب ولا أية ردة فعل. هنا قد يكون الأمر متفهما لأن الغضب لم يكن لأسباب دينية، وإنما كان لأسباب اجتماعية ترتبط بتقاليد تتعلق بالزي، ولكن ما لا يمكن تفهمه هو أن نلاحظ هذا التمييز في المحاسبة في أمور تتعلق بمقدساتنا الإسلامية، وبانتصارنا لنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، والذي لا يمكن أن نقول بأن هناك شريحة تحبه أكثر من شريحة أخرى. فلعلكم تتذكرون بأن المحاميين ولد شدو وولد أمين كان قد تعرضا لهجوم مكثف وشرس من جماهير النصرة بسبب دفاعهما عن المسيء، أما المحامية فاتيما أمباي فلم تتعرض لأي هجوم من أي نوع وذلك على الرغم من أنها كانت هي الأكثر صلة بهذا الملف، وكانت هي الأكثر علاقة بالمنظمات الأجنبية التي تضغط من أجل إطلاق كاتب المقال المسيء. فهل السبب في ذلك يعود إلى أن البعض يعتبر هذه المحامية مسلمة من الدرجة الثانية، ولا يجب أن تحاسب عندما تخطئ كما يحاسب ولد شدو وولد أمين؟
هذا يدعونا إلى طرح السؤال التالي : هل يعتبر إبراهيما صار مواطنا من الدرجة الثانية، ولذلك فإنه يجب أن لا يحاسب كما يحاسب أي مواطن آخر عندما يتحدث في صحيفة أجنبية عن وظائف يستكثرها على شريحة نتفق جميعا على أنها هي الشريحة الأكثر إقصاء وتهميشا في هذه البلاد؟
إن من العنصرية التي يجب محاربتها تلك العنصرية المتعلقة بتجاهل أخطاء بعض القادة السياسيين لأنهم من شريحة معينة، وذلك في الوقت الذي نتعامل فيه بقسوة مع أخطاء قادة آخرين لأنهم ينتمون إلى شريحة أخرى.
إن التمييز في المحاسبة بين فاتيمتا أمباي وولد أمين أو بين عبد السلام وإبراهيما صار ليعتبر هو أيضا عنصرية تجب محاربتها بدلا تجاهلها والسكوت عنها.
حفظ الله موريتانيا..