سكنت موريتانيا قلبه، ونطقت بذلك أشعاره، فحملت الوطن وهمه، وقضاياه، نافح عن هوية موريتانيا، ووحدتها، كتب عن ماضيها، وحاضرها، عن أعلامها، ورموزها، عن مقدساتها، وعن مكانتها...
لم يبع الشعر، ولم يقايض به، قيض كلامه الموزون المقفى لما يراه خدمة للوطن والمواطن، بل للأمة جمعاء وقضاياها، انتصر للمستضعفين، ولم يحاب الطغاة والمستبدين..
انتحب الشعر برحيله، وجفت بحوره، بكت رحيل الشاعر الخلوق الزحاف والعلل، والفصاحة،
والبلاغة، والبيان، بكته الهندسة، وأشكالها، معادلاتها، الدوال الحسابية والهندسية.. وجفت مٱقي الرزانة والهدوء، ومنابع الرجاحة والنضج، والأخلاق، برحيله.
من سيقول للزمان بعد الشيخ "أنا دمشق"، من سيكتب عن تحرير الأوطان يوما، وعن استرقاق الإنسان، من سيبرق إلى دمشق، وحلب، واللاذقية، وكل المدن السورية التي كان شعرها، وشاعرها، ناقل نبضها، الباكي دوما معها، الناعي لها كل يوم، أن الشيخ قد رحل.
ومن سيكتب إلى فلسطين عن فلسطين، من سيكتب شعرا عن واقع ليبيا، عن اليمن، وعن كل الأوطان العربية المضطهد شعبها، والمغلوب على أمره، عن كل مواطن الألم، وخرائط الوجع، عن الإنسان، عن الأطفال، والشيوخ، وعن المرأة...
صاحب الشيخ في عقود حياته ـ القصيرة عددا، والمفعمة بالإنسانية، والمسكونة بالإنسان وقضاياه ـ الفقير والمعدم، المريض والمظلوم، فكان صوتا قويا لمن لا صوت له.
كتب الشيخ ذات يوم من عام 2003 عن سيدة فقيرة معدمة، تجابه فاقة طبعت واقعها، وأقعدتها على هامش الحياة، فجلست على الرصيف تبيع ما تيسر من أشياء، رافضة الاستسلام لواقع مرير، وإذا بمن يتحالف مع واقعها، ضدها، فطردتها أيادي وأرجل الشرطة، في مشهد ضمنه الشيخ إحدى روائعه الشعرية، فبكاها، وأبكى القصيدة لواقعها.
بكى الشيخ الطفل محمد الدرة، أيقونة النضال الفلسطينية، التي طالتها يد الاحتلال الٱثمة الغادرة، ذات يوم من عام 2000، إثر اندلاع انتفاضة الأقصى، حيث خرج الرصاص من ظهره، ولفظ أنفاسه، راقدا في الأخير على ذراع والده، الذي لم يكن له حول، ولم تكن له قوة، واستسلم لأمر الواقع في مشهد هز العالم، واهتز له العالم.
بكى الشيخ شعرا لاغتيال ذلك الطفل الصغير، وهو في 12 من عمره، فكان نبضه الذي ردد معه "اطمئن يا أبي أنا بخير، لا تخف منهم" في شعر بديع، ينضح بالصدق والإنسانية، وبالوجع والألم.
الشعر عند الشيخ الوقور، شكل هندسي يودع الرسائل الدالة، ليوصلها بأمان إلى المعنيين، ولا يأخذ شكل البضاعة التي تعرض للبيع والشراء، فالشعر عنده يكسد إن هو عرض للبيع، أو قدم زلفى، وتقربا وتوددا، فحينها يتغير شكله الهندسي البديع، وتختل معادلاته، ويفقد بريقه، ولا تصل رسالته.
لم يسخر الشيخ الشعر لغير الإنسان، وقضايا الوطن والأمة، صادق الشعر، فصدقه الشعر، وصدق هو الشعر، ولا خير في شعر ونثر غير صادقين، ولا في حياة غير صادقة.
لم يمش في الأرض مرحا، ولا خيلاء، كان بسيطا، متواضعا، مسامحا، يمقت الظلم، والظلمة، ويقدر العلم وأهله، بفقده يفقد الشعر أحد كبار سدنته، وتفقد الكلمة الصادقة أحد الصادعين الصادحين بها، فالقصيدة بعد الشيخ ثكلى، والشعر يتيم بعده.
كتب الشيخ الراحل خواطر ذات يوم من شهر اكتوبر عام 2010 عن الجنود، وهم على الجبهات، فنقل واقعهم، وأناتهم، والمخاطر التي يواجهون، في سبيل الذود عن حمى الوطن، تحدث بلسانهم، وأبرق إلى أمهاتهم، بلسان عربي مبين، في قصيدة مفعمة بالقوة، مليئة بالصور، والمعني.
يقول في نهايتها:
فيا وطني خذني بحضنك دافئا
ولا تنس أطفالي فإني لك الفدا
إذا عشت فالعمر الجميل هدية إليك
وموتي فيك عمر تجددا.