ما كان ليموت إلا كما مات وربما أبشع، علي عبد الله صالح من طينة رؤساء لا يمكن أن يتخيلوا أنفسهم لحظة واحدة خارج السلطة. أما إن غادروها، ولو مكرهين كما فعل، فلن يكونوا قادرين سوى على إفساد أي ترتيب بعدهم. أدمن الرجل قيادة الرجال وتغيير الولاءات واللعب على كل الحبال حتى بات عاجزا عن أن يجلس في بيته مقتنعا بأن دوره انتهى، كما يفعل موغابي اليوم في زيمبابوي مثلا أو بن علي في الرياض. كان بإمكانه أن يظل «الزعيم» علي عبد الله صالح لو فعل ذلك لكنه يريد أن يبقى إلى الأبد الرئيس والقائد والموجه لدفة الأمور على الأرض ولردهات السياسة وتحالفاتها المعقولة والمجنونة. كان بإمكانه أن يتمتع بكل ما جمعه طوال ثلاثين عاما من حكمه وأن تنعم أسرته براحة البال أخيرا لكنه أبى مع أن «المبادرة الخليجية» قدمت له طوق نجاة أرادت به كذلك إجهاض ثورة شعبية كبرى عاشها اليمن مما أوصله في النهاية إلى كل هذه المصائب والمعاناة التي يعيشها حاليا. قابلت الرئيس علي عبد الله صالح ثلاث أو أربع مرات آخرها كان في شهر رمضان المبارك عام 2007. وما زلت إلى اليوم أحتفظ بـصوري معه وبــ «الجنبية» (الخنجر) الفضي الجميل الذي يهديه عادة لضيوفه. جمعتنا مائدة الإفطار في بيته في مدينة تعز، كانت محض صدفة فالمناسبة في الأصل لقاء تلفزيوني مع الرئيس، وحين وصلنا مع كامل الطاقم الفني لم يكن قد تبقى على الإفطار سوى أقل من ساعتين، فقررنا التعجيل بالتسجيل. كان الرئيس وقتها كأي مواطن في بيته عصر يوم رمضاني يلبس الدشداشة فاستأذن مسرعا كي يلبس البدلة الرسمية. بدا الرجل أكثر عفوية وحفاوة من مرات سابقة قابلته فيها في مكتبه الرئاسي. كان تلقائيا ومرحا إلى أبعد الحدود. ما إن صافح المخرج العراقي المعروف عماد بهجت الذي كان المشرف على كل التفاصيل الفنية للمقابلة حتى بادره بسؤال مباشر ومفاجئ: «أخ عماد أنت سني أم شيعي؟». كنا في تلك الأيام في خضم صراع مرير تحت هذا العنوان في العراق. ابتسم عماد وقال لـه «والله سيد الرئيس أنا لا هذا ولا ذاك»… قبل أن أتطوع أنا بالقول: أخونا عماد مسيحي. ضحك الرئيس وقال: ممتاز لتبق كما أنت… بلا سنة، بلا شيعة، بلا وجع رأس! وضحكنا جميعا. سجلنا المقابلة وكانت ممتعة وفيها الكثير من السجال المشوق، وبعد الانتهاء منها لم يكن قد بقي على أذان المغرب سوى زهاء ربع ساعة. رفض الرئيس بشدة مغادرتنا وطلب من كامل الفريق أن نكون ضيوفا على مائدته. ومع كلمة «الله أكبر» كان الرئيس بنفسه يقدم لنا التمر والعصير قبل أن يؤم الجميع في صلاة المغرب فصلى الجميع وراءه إلا عماد طبعا!! على المائدة كان هناك ما لذ وطاب وكان الرئيس مرة أخرى هو من يخدمنا بنفسه، يقطع اللحم بيديه ويقدم لنا أطيبه، ويلح علينا في التذوق من كل الأطباق. بالطبع لم يكن هناك من مفر لتجنب الحديث عن «الجزيرة» ومآخذ الرئيس التي لا تحصى عليها مع أنه أحد أكثر المتابعين لها وأحد الرؤساء العرب القلائل الحريصين على الحديث إليها بين فترة وأخرى قبل القطيعة الأخيرة. هنا فجر الرئيس مفاجأة من العيار الثقيل. بادرني بسؤال من يظن أنه أوقع بي أخيرا «أتدري لماذا لا تترك محطتكم شاردة ولا واردة عن اليمن إلا أوردتها؟». ـ لماذا سيد الرئيس؟ ـ لأن مراسلكم مراد هاشم ( هو الآن مراسل في واشنطن) يتلقى ثلاثة آلاف دولار على الخبر الواحد الذي يرسله إليكم… هذه هي كل القصة، ولذا فمن مصلحته أن يلتقط أي شيء على الساحة اليمنية مهما كان!! ـ سيادة الرئيس إذا كان هذا الأمر صحيحا فأنا سأطلب فور عودتي نقلي مديرا لمكتب صنعاء… ثلاثة أخبار فقط في اليوم يعني 9 آلاف دولار يوميا… أي 270 ألف دولار شهربا، وأنا لا أتقاضى حاليا حتى عشر هذا المبلغ!! صمت الرئيس قليلا وكأنه اكتشف أن في الأمر مبالغة عسيرة الهضم ثم قال: والله هذا ما قاله لي الجماعة دون أن يحدد من بالطبع. ولم أتردد في التعقيب فورا بأن من قال لك هذا الكلام غير صادق ويحاول تضليلك باختصار. ساد صمت ثقيل لبرهة، من يدري فقد يكون من قال له هذا الكلام أحد الجالسين على المائدة من مساعدي الرئيس ومستشاريه. غيّــرنا بسرعة هذا الحديث وخضنا في حديث غيره، الأرجح أنه كان عن الطعام اليمني وأنواعه فذلك أمتع بلا جدال. عند المغادرة صافحنا الرئيس مودعا في الباب بمثل ترحاب الاستقبال، قائلا لعماد ضاحكا «لا تنس عماد، مثلما أوصيتك… خليك مسيحي أحسن!! ٭ كاتب وإعلامي تونسي