ألقى وزير التعليم العالي خطابا عشية الافتتاح الدراسي 2 أكتوبر 2017، وقد جاء في الخطاب :" فبتوجيهاته السّامية عملت حكومة معالي الوزير الأول السّيد/ يحي ولد حدّمين على تحقيق نقلة نوعية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي تمثلت في استكمال الإصلاحات الكبرى القائمة على مبادئ تحسين الجودة، وتوسيع عروض التكوين وتنويعها، والمواءمة بينها وبين الحاجات التنموية لبلادنا".
تحدث وزير التعليم العالي في خطابه عن نقلة نوعية في القطاع، وقد تعود الوزراء في بلادنا على أن يتحدثوا في كل خطاباتهم وأحاديثهم عن نقلات وقفزات نوعية تحققت في قطاعاتهم في السنوات الأخيرة.
خطاب الوزير تصادف هذه المرة مع تداول المدونين لتقرير مؤشر التنافسية العالمية الذي هو عبارة عن تقرير سنوي ينشره المنتدى الاقتصادي العالمي بسويسرا. هذا التقرير السنوي يقدم الوضعية الاقتصادية ل137 دولة، وذلك من خلال ثلاث بنود، كل بند منها يشمل عدة مؤشرات. في البند الثاني والذي يشمل مؤشر التعليم العالي الذي قال وزيره بأن بلادنا قد حققت فيه قفزات نوعية جاءت بلادنا في آخر رتبة، أي أنها احتلت الرتبة رقم 137، نفس الشيء حصل تقريبا مع البنود الأخرى، ففي البند الأول احتلت بلادنا الرتبة 123 وفي البند الثالث الرتبة 136.
حدث آخر لافت تصادف مع خطاب وزير التعليم العالي، ومع تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، يتعلق هذا الحدث بقرض جديد حصلت عليه بلادنا، فقد جاء في خبر نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء يوم الأربعاء الموافق 4 أكتوبر 2017 : " وقع وزير الاقتصاد والمالية السيد المختار ولد أجاي مع المديرة العامة لبنك تشجيع الصادرات الهندي السيدة حرشه بانكاري صباح اليوم الأربعاء في نواكشوط على اتفاقية يقدم بموجبها البنك المذكور لموريتانيا قرضا بقيمة 110 ملايين دولار، أي ما يناهز 39 مليار أوقية مخصصة لتمويل خط كهربائي عالي الجهد بين مدينتي نواكشوط ونواذيبو".
وإذا عدنا إلى أرشيف الوكالة فسنجد بأنها من قبل ست سنوات، وتحديدا في يوم الأربعاء الموافق 23 نوفمبر 2011 نشرت خبرا جاء فيه: " ويتعلق الجزء الأول من هذا التمويل بقرض بقيمة 375 مليون ريال سعودي أي ما يناهز 5ر28 مليار أوقية مخصصة لإنشاء خط كهربائي عالي الجهد يربط بين مدينتي نواكشوط ونواذيبو".
ما تم توقيعه يوم الأربعاء 4 أكتوبر 2017 يتعلق بقرض لتمويل خط كهربائي على الجهد، وكنا قد حصلنا سابقا على قرض من الصندوق السعودي للتنمية لتمويل نفس المشروع. المتوفر لدينا من معلومات هو أن الصندوق السعودي للتنمية كان قد وجه رسالة في 16 ـ 11ـ 2016 موقعة من نائب رئيسه يهدد فيها بوقف التمويل، وقد قيل حينها بأن السبب هو إصرار السلطة الموريتانية على منح الصفحة لأحد المقربين، على العكس مما كان قد تم الاتفاق عليه وهو منح الصفقة لشركة سعودية.
هذه الأحداث المتزامنة :خطاب الوزير الذي تحدث فيه عن قفزات نوعية، مؤشرات متدنية، قروض جديدة، فساد..تستلزم منا أن نتوقف مع جملة من الأمور، وذلك من قبل اختتام هذا المقال بمقترح أو بمبادرة لمواجهة فساد السلطة الحاكمة.
بلادنا غنية بالثروات وقليلة السكان
دعونا في البداية نذكر مرة أخرى بأن بلادنا غنية بالثروات وبأن سكانها أقل بكثير من سكان مدينة واحدة كالدار البيضاء، ومن ثرواتنا يمكن أن نذكر :
ـ ثروة حيوانية هائلة نسأل الله أن يحميها من الجفاف في هذا العام، وتقدرها الإحصائيات الرسمية ب22.5 مليون رأس (1.4 مليون رأس من الإبل؛ 1.8 مليون رأس من الأبقار؛ 19.3 مليون رأس من الماعز والضأن)، أي أن المتوسط الذي يمتلكه الموريتاني من المواشي يصل إلى ستة رؤوس.
ـ شاطئ من أغنى شواطئ العالم بالسمك، وواجهة بحرية على المحيط الأطلسي يبلغ طولها 720 كلم.
ـ أكثر من 1.5 مليار طن من الحديد، و25 مليون أونصة من الذهب، و 28 مليون طن من النحاس، و140 مليون طن من الفوسفات ، و11 مليون طن من لكوارتز، و6 مليارات طن من الجبس.، وإذا ما اكتفينا بالحديد لوحده، فإن بلادنا تعد هي الثانية إفريقيا من حيث إنتاج الحديد، والخامسة عشر عالميا، وذلك بإنتاج سنوي يصل إلى 13 مليون طن. ينضاف إلى كل هذه المعادن الغاز الذي اكتشفت منه مؤخرا كميات كبيرة.
ـ 500 ألف هكتار صالحة للزراعة، منها أكثر من 135 ألف هكتار علي الجانب الموريتاني من نهر السنغال.
بلادنا من أكثر البلدان فقرا وأمية وفسادا
بلادنا التي تمتلك كل هذه الثروات الهائلة، والتي لا يصل عدد سكانها إلى عدد سكان مدينة مغربية واحدة كالدار البيضاء، والتي يتحدث وزراؤها في كل يوم عن قفزات نوعية تحققت في قطاعاتهم الوزارية، بلادنا التي هي بهذه المواصفات تصنف حسب المؤشرات العالمية بأنها من أكثر بلدان العالم فقرا، ومن أكثرها أمية ومن أقلها جودة على مستوى التعليم والصحة، وفي كثير من الأحيان فإنها تكون أدنى رتبة في المؤشرات العالمية من بعض البلدان الإفريقية والعربية التي لا تزال تعاني من الحروب الأهلية.
أين ذهبت هذه الأموال والخيرات الهائلة؟
في السنوات الأخيرة حدثت بعض الأمور الغريبة والمتناقضة والتي لا يمكن التوفيق بينها إلا إذا استحضرنا بأن البلاد قد شهدت في السنوات الأخيرة مستوى غير مسبوق من النهب والفساد، وهو ما تؤكده مؤشرات عديدة..ومن هذه الأمور المتناقضة التي حدثت في السنوات الأخيرة نذكر:
ـ فبالإضافة إلى أن بلادنا غنية بالثروات قليلة السكان فإن السلطة الحاكمة قد حظيت في السنوات الأخيرة بأموال طائلة تحصلت عليها من خلال الطفرة الكبيرة في أسعار الحديد، ومن خلال الأرباح الهائلة التي حققتها من فوارق السعر في المحروقات، ولقد خفضت كل البلدان المجاورة أسعار المحروقات لما انخفض سعرها عالميا، ولكن بلادنا ظلت تتربح على حساب مواطنيها، وتحصلت بلادنا أيضا على أموال طائلة من خلال الضرائب المجحفة بالأغنياء وبالفقراء على حد سواء، وكذلك من خلال بيع أملاك وعقارات الدولة، فقد بيع عدد المدارس، وبيعت "بلوكات"، وبيع جزء من الملعب الأولمبي، وبيع جزء من مدرسة الشرطة، وبيع فندق "مركير" (مرحبا سابقا)، وبيعت الساحة المجاورة لهذا الفندق، وبيع مبنى ثكنة الموسيقى العسكرية، وبيع جزء من "ساحة اللنكات" في مقاطعة عرفات، وبيعت عقارات وأملاك عامة في نواذيبو وروصو وفي مدن أخرى، ووصل البيع إلى الضيوف فبيع السنوسي، ولا تزال عمليات البيع مستمرة.
ـ عمليات اقتراض ضخمة، فبعد أن كانت بلادنا في وضعية حسنة بعد إلغاء ديونها في المرحلة الانتقالية، وصلنا اليوم إلى ديون خارجية تصل إلى ما يقارب 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
ـ عمليات تقتير وترشيد غير مسبوقة، ويكفي هنا أن أشير إلى أمثلة سريعة: في العام 2014 تم حرمان بلادنا من التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك بسبب عدم دفعها لاشتراكاتها المالية لسنتين متتاليتين. وفي نفس العام كادت بلادنا أن تطرد من اتحاد البرلمان العربي بسبب أنها لم تدفع اشتراكها لثلاث سنوات متتالية، مما جعل رئيس البرلمان اللبناني "نبيه بري" يطالب الأشقاء العرب بالدفع عن موريتانيا، وقد قال يومها: "لماذا يا إخوان نخسر عضوية دولة عربية شقيقة بهذه السهولة ، ليدفع الأعضاء المبلغ المطلوب من موريتانيا بحسب النسب التي تسددها كل دولة".
ـ رفض وزارة المالية تمويل مشاركة موريتانيا في معرض " TOP RESA" السياحي بباريس مما أدى إلى غيابنا عن هذا المعرض، وذلك على الرغم من حضور: السينغال و مالي و التوغو و بوركينا فاسو.
ـ إصدار الأمانة العامة للحكومة لتعميم هو الأول من نوعه تطالب فيه كل الإدارات باستغلال وجهي الورقة عند الطابعة والتصوير.
ويبقى السؤال : أين ذهبت كل هذه الأموال الطائلة؟ وكيف لدولة تمتلك ثروات طبيعية هائلة، وعدد سكانها لا يصل إلى عدد سكان الدار البيضاء، وحصلت على قروض هائلة، وتحقق أرباح خيالية من أسعار المحروقات ومن الضرائب، وتبيع باستمرار ممتلكات وعقارات الدولة، وتتأخر في دفع اشتراكاتها، وتمارس أقسى أنواع التقشف في الإنفاق، كيف لدولة كهذه أن تبقى على مقاييس مؤشرات التنمية في الدرك الأسفل؟
أين ذهبت كل هذه الأموال الطائلة؟ ولماذا نواصل الاقتراض من الخارج مادامت هذه القروض لا تحقق أي تنمية، حالها في ذلك كحال العائدات الكبيرة التي تحققها الدولة من خلال الموارد الطبيعية، ومن خلال الضرائب، ومن خلال التربح على حساب المواطن ببيع المحروقات بأسعار عالية جدا.
المواطن الموريتاني يزداد فقرا عاما بعد عام، وذلك في الوقت الذي يزداد نصيبه من الديون، ففي العام 2013 كان يبلغ متوسط دخل الفرد الموريتاني 1450 دولارا، فانخفض هذا المتوسط بنسبة 25% إلى أن وصل في العام 2016 إلى 1077 دولارا.
مقترح أو مبادرة
تعودنا في معاملاتنا الفردية أن يغلق صاحب دكان الحي دفتر الدين ويرفض زيادته إذا ما وصل حجم ديوننا إلى مستوى معين، مثل هذا الأمر قد لا يحصل مع مؤسسات التمويل، ولذلك فقد يكون من المهم أن نطلق مبادرة شعبية نطالب فيها من مؤسسات التمويل ومن الشركاء الأجانب بضرورة إغلاق "دفتر الدين" عن بلادنا إلى أن ينعم الله عليها بحكومة تتمتع بالحد الأدنى من حسن التسيير، وتكون بالتالي قادرة على الاستفادة من هذه القروض. إنه من الظلم الكبير أن نحمل الأجيال القادمة تسديد ديون لم يستفد منها بلدهم، ولم يستفد منها آباؤهم، لم تستفد منها إلا شلة قليلة من المفسدين قدر لها أن تقود البلاد في هذه المرحلة من تاريخها.
في اعتقادي بأن مبادرة شعبية من هذا النوع ستكون هي أهم عمل يمكن القيام به في مثل هذا الوقت لكشف حجم فساد النظام القائم، فأن يرسل مئات أو الآلاف من الموريتانيين من مختلف الأعمار والمستويات رسائل إلى مؤسسات التمويل يطالبون فيها بضرورة وقف الفروض التي تقدمها تلك المؤسسات للنظام الموريتاني الفاسد، ويؤكدوا فيها أن الشعب الموريتاني لن يلتزم بتسديد هذه القروض، فإن مثل هذا الفعل سيكون بمثابة ضربة قوية لهذا النظام الفاسد.
طبعا لن توقف مؤسسات التمويل قروضها، ولكن مثل هذه الخطوة ستكشف وبأكثر الوسائل فعالية حجم فساد النظام القائم، ستكشف ذلك للشركاء الأجانب وكذلك للمواطنين في الداخل.