لايخفى على القارئ الكريم أن مصطلح "صناعة الحدث" لا يعني هنا أبدا المشاركة الفعلية في صياغة الأحداث والتخطيط لاستيراتيجي لأبعادها وحجم تأثيرها، وإنما يعني ـ كما يوحي الجزء الثاني من العنوان ـ مشاركة وسائل الإعلام في ترتيب أولويات المتلقي واهتماماته وبناء قناعاته وتصوراته تجاه الأحداث، من خلال تكثيف صور وتفاصيل بعضها على حساب الآخر، وبالتالي صناعتها وصياغتها من جديد لتلائم حجم المساحة الممنوحة لها، في التغطية الإعلامية، والرأي العام، لكن في حدود الموضوعية والمهنة، حفاظا على المصداقية التي هي رأس مالها الرمزي.
ويعتبر الخط التحريري للمؤسسة الإعلامية أهم عوامل التأثير في "صناعتها للأحداث"، بالإضافة إلى الإطار القانوني الناظم والمشرع لممارسة العملية الإعلامية، كما أن الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والجغرافية للموضوع تؤثر لا محالة على مدى الاهتمام به، واتساع مساحة تغطيته وتناوله في الفضاء لعام، وفي هذا النطاق تبرز الكفاءة الفنية والخبرة العملية لوسيلة الإعلامية، وفريقها الإنتاجي، من خلال تقدير المواقف وقراءة الواقع للاطلاع على الحاجيات الأساسية للجماهير، وإشباعها بساليب المعالجة الفعالة في الحصول على متابعة شعبية ونخبوية واسعة تتميز بالنشاط والحيوية والتفاعل الجاد.
وسائل الإعلام تنطلق كلها في تناولها للمادة الإعلامية من دعامة الخبر، كوحدة مبدئية تنبثق عنها وتتطور مختلف المعالجات والمقاربات ، حسب تقادم الموضوع وحجم المعلومات المتوفرة حوله، والأبعاد الممكن تناولها للحصول على مزيد من التفاصيل والخبايا الكامنة وراء النوافذ الضيقة لمصادر الأخبار. وفي كل مرحلة من مراحل التطور الزمني للمواضيع وكثافة الأحداث وتشابكها، من المفترض أن تتمايز وسائل الإعلام وتتعدد بحساب الزوايا والقراءات المختلفة لجوانب الموضوع الواحد، فضلا عن مواضيع مختلفة.
في ضوء هذا التصور، إذا قمنا بقراءة خاطفة للمشهد الإعلامي الموريتاني في الآونة الأخيرة، ندرك دون عناء، مدى اختلال لاستيراتيجية وانعدام المنهجية لدى أغلب هذه الوسائل الإعلامية في تغطيتها للأحداث الوطنية، يتجلى ذالك في منحيين أساسين :
• أولهما التناول السطحي والمتساوي للأحداث : وذالك حين تقوم وسائل الإعلام بتناول الحدث من زاوية موحدة، تغيب فيها خصوصية الوسيلة ولمساتها الفنية وميزة خطها التحريري، وتتجذر هذه الظاهرة في وسائل الخصوصية أكثر منها في وسائل الإعلام الرسمية، لكن هذه الأخيرة تعاني دائما من الرتابة في أشكالها الصحفية، وتوحيدها حول كل مواضيعها، حتى الرئيسة منها.
• وثانيهما الفصل بين الحدث والواقع : من خلال تناوله بسطحية تتجاهل رصد تأثير الحدث على المواطن وردة فعله تجاهه، وبالتالي إهمال البعد الإنساني الذي يشكل مثار الإهتمام به، وإعطائه مساحة معتبرة بين الأحداث اليومية.
المظاهر السلبية لهذين المنحيين، تتجلى بحدة، في اتساع الهوة بين الجمهور ووسائل الإعلام الموريتانية خصوصا السمعية البصرية منها، لأن خارطتها البرمجية عموما ونشراتها الإخبارية في مجملها لاتركز في مواضيها وترتيبها على اهتمامات المواطن ونزعته الإنسانية التي تدعوه لا إراديا إلى التعاطف والمتابعة والانسجام، ولذات السبب نجد أغلب الجمهور الموريتاني يميل في متابعته للمادة الإعلامية الجادة إلى لإعلام الخارجي، ماجعله مرتبطا بالقضايا العامة في الخارج أكثر من ارتباطه بقضايا الشأن العام الموريتاني، لأنه في المقابل يقتصر في متابعته للإعلام الوطني على إشباع الحاجة الترفيهية، كمتابعة الفلكلور الشعبي، والحفلات الفنية والرحلات السياحية ... وذالك ماتؤكده نسب المشاهدة العالية التي تسجلها هذه البرامج الفنية على حساب البرامج السياسية والعلمية والثقافية ... سواء عبر وسيلة الإعلام نفسها أو على موقع اليوتيوب وصفحات التواصل الإجتماعي. وتبقى المواقع الإلكترونية المصدر الأكثر ارتيادا للاطلاع على المستجدات اليومية، رغم افتقار أغلبها إلى المصداقية والمهنية، الناتجتين عن ضعف الإمكانيات المادية والبشرية، ماجعلها أشبه بما يسمى ب"إعلام المواطن" المتداول بشكل سريع وعشوائي على صفحات التواصل المفتوحة.
انعدام مساهمة وسائل الإعلام الموريتانية في صناعة الحدث، يمكن أن يجد تفسيره في عدة أسباب تعود في أغلبها إلى انعدام التأطير الأكاديمي والقانوني الجاد لهذه العملية حتى الآن، ويتجسد ذالك في ضعف الكفاءات و الخبرات لدى القائمين عليها، كما أن حداثة هذا المجال وحريته حتى الإهمال في الفضاء الموريتاني تفسر من جهة أخرى جانب البدائية والسطحية في اختيار المواضيع ومعالجتها، وبالتالي ضعف تأثيرها في المجتمع، ذالك أن وسائل الإعلام الوطنية، تابعة في اختيار مواضيعها ومادتها الإعلامية لما يثيره قادة الرأي العام المسيطر، من اهتمامات وأبعاد مختلفة لإشباع الحاجيات والرغبات الإعلامية لدى عامة الرأي العام المنقاد في غياب تام للبوصلة التوجيهية والتأطيرية و الخصوصية مفترضة للخطوط التحريرية والزوايا المختلفة لوسائل الإعلام وتناولها المهني، وقدرتها الخارقة على تكثيف المشاهد والواقائع حتى تتحول من مجرد مصدر يختص بالحدث من مدلولي الفعل، إلى فعل مكتمل الأبعاد، يعود في خلفياته إلى جذور الحركة والإيحاء، ويحوي كل معطيات الواقع وأبعاده، وقابل لمختلف القرءات الاستشرافية على ضوء الآفاق والتصورات الممكنة.
محمد/ محمد عال
صحفي باحث دكتوراه إعلام