إذا ما جمعنا بين الرياضة والسياسة، فإنه يمكننا القول بأن منتخبنا الوطني والرئيس المالي قد حققا نصرا ثمينا، وذلك في الوقت الذي تكبد فيه المنتخب المالي والرئيس الموريتاني هزيمة نكراء. انتصرت بلادنا في الرياضة وانهزمت في السياسية، وانتصرت جارتنا مالي في السياسة وانهزمت في الرياضة، وبما أن هذه الانتصارات والهزائم كانت متزامنة ومتداخلة فإنه قد يكون من المهم أن نتوقف معها بروح رياضية وبعقلية سياسية، ومن المؤكد بأننا عندما نتوقف مع هذه الانتصارات والهزائم بروح رياضية وبعقلية سياسية فإننا سنخرج منها بجملة من الملاحظات والدروس والخلاصات المهمة.
دروس النصر الرياضي
إن المتأمل في تفاعل المدونين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي ( ومزاج هؤلاء يعكس المزاج العام للشعب الموريتاني) مع النصر الثمين الذي أحرزه منتخبنا الوطني، لابد وأنه سيخرج بخلاصتين في غاية الأهمية :
الأولى : أنه لا تزال توجد ولله الحمد قضايا وطنية جامعة، ومن شاهد تفاعل المدونين بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم مع نصر المنتخب الوطني في مباراته الحاسمة مع المنتخب المالي سيتأكد من ذلك. لقد أظهر المدون المعارض فرحا بهذا النصر لا يقل ـ في أسوأ تقدير ـ عن الفرح الذي أظهره المدون المحسوب على النظام.
لقد جمع انتصار المنتخب الوطني مدوني المعارضة والموالاة، وسيظل يجمعهم إن لم يتم تسييس الرياضة، وإن لم يتم تحويل المنتخب الوطني إلى منتخب للموالاة وللفريق الحاكم.
كان يمكن أيضا للمقاومة ولتمجيد الشهداء، سواء من استشهد منهم في زمن الاستعمار، أو من استشهد من بعد الاستقلال، كان يمكنها ـ أي المقاومة ـ أن تبقى من القضايا الجامعة، ولكن ـ وللأسف الشديد ـ فيبدو أنه قد تم تسييس هذه المقاومة، وقد تم العمل على تحويلها إلى قضية سياسية، وإلى شعار مسجل باسم الموالاة والفريق الحاكم، وكانت تلك هي أكبر طعنة يمكن أن يتم توجيهها للمقاومة وللمقاومين.
الثانية : لقد أثبت مدونو المعارضة من خلال تفاعلهم مع انتصار المنتخب الوطني، وهم ليسوا بحاجة إلى إثبات ذلك، بأنهم وطنيون، وبأنهم إن لم يكونوا أكثر وطنية من غيرهم، فهم، وبكل تأكيد ليسوا أقل وطنية.
وتبقى المشكلة هنا، هي أن هناك من لا يفرق بين النظام والدولة، ولا بين القضايا الوطنية التي تستوجب إجماعا، والقضايا السياسية التي قد تهم هذا الفريق السياسي دون ذاك. إن هناك قضايا سياسية محل اختلاف واجتهاد حاولت السلطة وإعلامها الرسمي وفسطاطها السياسي أن ترفع من شأنها وأن تجعل منها قضايا وطنية، وهو ما يعني بأن لم يدعم تلك القضايا، فإنه سيتحول تلقائيا إلى خائن للوطن في نظر السلطة الحاكمة وفسطاطها الداعم.
على السلطة الحاكمة أن تعلم بأن المعارضة بشكل عام، ومدونيها بشكل خاص، يمتلكون من الوعي ما يكفي للتمييز بين ما هو وطني لا يجوز التخلف أو التقاعس عنه، وما هو سياسي يبقى محل اجتهاد سياسي، ولا يجوز أن يوصف من تقاعس عنه بالخيانة الوطنية، خاصة وإن كان المتقاعس عنه لم يتقاعس إلا لاعتقاده الجازم بأن الوطنية تقتضي ذلك.
صحيح أنه في بعض الأحيان قد يقع تداخل كبير بين ما هو وطني جامع وما هو سياسي قابل للاختلاف، وصحيح أيضا أن السلطة الحاكمة قد تزيد من عمق ذلك التداخل، مثلما فعلت خلال التحضير للقمة العربية التي تم تنظيمها في العاصمة نواكشوط في يوم 25 يوليو 2016. لقد جعلت السلطة الحاكمة من تنظيم تلك القمة نصرا سياسيا خاصا بها من قبل أن يكون نصرا للدولة الموريتانية، ولذلك فقد كانت لجان التحضير والشخصيات المرجعية التي أعدت لائحة بها لتتم استضافتها في الإعلام الرسمي من فسطاط واحد، وأبعدت كل الشخصيات التي لا تجاهر بموالاتها، حتى وإن كان يشهد لها بعدم انتمائها للمعارضة. وعلى الرغم من كل ذلك فقد أصدرت بعض الأحزاب المعارضة بيانات تتمنى فيها نجاح القمة، وترحب فيها بضيوف القمة (لقد رحب حزب تواصل بكل ضيوف القمة ولم يستثن السيسي). كما أن هذه الأحزاب أوقفت أنشطتها للاحتجاجية خلال فترة تنظيم القمة حتى لا يشكل ذلك تشويشا عليها. ولما أساء بعض أعضاء الوفود العربية لموريتانيا ولعاصمتها المليئة بالقمامة والبعوض كان كتاب ومدونو المعارضة على رأس الحربة في التصدي لأولئك، بل أكثر من ذلك فقد انخرط بعض نشطاء المعارضة في أعمال تطوعية كانت تهدف إلى شطف المياه من أمام قصر المؤتمرات، وذلك حتى لا تظهر عاصمتنا على حقيقتها، وعلى أنها ربما تكون هي العاصمة الوحيدة في هذا العالم التي لا يوجد بها صرف صحي.
خلاصة القول هي أنه لا يحق لأي كان أن يشكك في وطنية المعارضة، ولا في وطنية مدونيها، وأنه على السلطة أن تعلم بأن مدوني المعارضة يمتلكون من الوعي ما يمكنهم من التمييز بين ما هو وطني لا يجوز التخلف عنه، وما هو سياسي سيبقى محل اختلاف واجتهاد، حتى ولو حاولت السلطة وموالاتها أن تجعل منه قضية وطنية لا تقبل الاختلاف.
دروس من النصر السياسي
لقد دعا كل من الرئيس الموريتاني والرئيس المالي إلى تعديلات دستورية، وقد تشابهت الدعوتان في جملة من الأمور، واختلفت في أمور أخرى. فمن حيث التشابه فالدعوتان قد جاءتا من قبل انتخابات رئاسية في البلدين (مالي 2018، موريتانيا 2019)، وكلاهما تعزز من صلاحيات الرئيس ونفوذه ( في موريتانيا سيتم إلغاء مجلس الشيوخ والذي يمثل الغرفة الوحيدة التي لا يمكن للرئيس حلها، وفي مالي سيتم تشكيل هذا المجلس، ولكن سيتم تعيين ثلث أعضائه من طرف الرئيس، هذا فضلا عن منح الرئيس الحق في إقالة رئيس الوزراء متى أراد)، وكلاهما تمهد لجمهورية ثالثة، وكلاهما تعزز اللامركزية مع إمكانية أن يتم استغلال ذلك بما يعمق من الشرخ والتفكك المجتمعي(المجالس الجهوية في موريتانيا، تعزيز الحكم الذاتي في أزواد بالنسبة لمالي)، وهما تتعلقان بنفس المؤسسات : مجلس الشيوخ والمحكمة السامية ( التعديلات في مالي من أجل إيجاد هذه المؤسسات، وفي موريتانيا من أجل إلغائها)، وكلاهما قد وجد معارضة قوية ( منسقية المعارضة الديمقراطية في موريتانيا، لا تلمس دستوري في مالي).أما فيما يخص نقاط الاختلاف فمن أهمها أن التعديلات الدستورية في موريتانيا تمس من الرموز الوطنية (العلم)، كما أنها اتخذت مسارا غير دستوري من بعد تصويت الشيوخ حسب ما يراه أغلب الفقهاء الدستوريين في البلاد.
هذه بالمجمل هي أهم نقاط التشابه والاختلاف بين التعديلات الدستورية في البلدين، أما فيما يخص دروس النصر السياسي فيمكن إجمالها في النقطتين التاليتين :
الأولى : على المعارضة الموريتانية، والتي لا يمكن التشكيك في أهمية الأنشطة التي قامت بها في الفترة الأخيرة، أن تطرح السؤال الكبير والذي لابد له من البحث عن إجابة : لماذا المعارضة الموريتانية هي من أقل المعارضات في المنطقة فعالية وذلك على الرغم من أنها تبذل جهدا نضاليا ليس بأقل من الجهود النضالية التي تبذلها المعارضات الأخرى في دول المنطقة؟
الثانية : أما الدرس الأهم في هذا النصر السياسي هو أن هناك هزيمة نكراء قد تأتي في ثوب نصر مغشوش، وأن هناك نصرا عظيما قد يأتي في ثوب الهزيمة. لقد هُزم الرئيس الموريتاني من بعد إسقاط التعديلات الدستورية من طرف مجلس الشيوخ، وهُزم من بعد إسقاطها من طرف الشعب الذي قاطع الاستفتاء، ولكن، وعلى الرغم من كل تلك الهزائم، فقد قرر الرئيس الموريتاني أن يواصل الهروب إلى الأمام، وهو ما سيجعله مستقبلا يتكبد المزيد من الخسائر والهزائم. أما الرئيس المالي فقد اعترف بالهزيمة، وتعامل معها بمسؤولية الرؤساء، فاستجاب للرفض الشعبي، وغلب المصالح العليا لبلده على مصالحه الخاصة، وبذلك فقد حول تلك الهزيمة إلى نصر مبين، له، ولشعبه.
لقد انتصر الرئيس المالي والشعب المالي بهذا الخطاب التاريخي العظيم، والذي يستحق حقا أن يوصف بتلك الأوصاف، وإليكم فقرة رائعة من هذا الخطاب التاريخي العظيم، وهي من ترجمة موقع وكالة الأخبار المستقلة.
"مواطنيا الأعزاء :
لقد لاحظت في ظل المناخ السائد حاليا، أن الشروح، والتفسيرات بشأن التعديل الدستوري لم تسمع، ولم تتقبل، وبالنظر إلى كل ما سبق، وأخذا في الاعتبار المصلحة العليا للوطن، والحفاظ على بيئة اجتماعية هادئة، قررت بكامل المسؤولية توقيف تنظيم الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري. فمن أجل مالي لا شيء فوق التضحية.
قررت ذلك، لأنه في الوقت الذي تواجه فيه بلادنا تحديات كبرى، فإنه لا يمكننا أن نضيف إليها تلك المستمدة من سوء التفاهم، والاختلاف.
إنه من الواجب علينا أخذ الوقت معا لإجراء التشاور، وسأتخذ كرئيس الترتيبات اللازمة لتنظيم حوار شامل وهادئ، يشارك فيه الجميع.
إنني لا أقلل من شأن الطريقة التي على بعضنا اتخاذها تجاه البعض الآخر، لكن عندما يضع كل منا حماية الوطن فوق كل اعتبار، فلا شك أننا سوف نجد أرضية مشتركة.
أشكركم.
وحفظ الله مالي." انتهت الفقرة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل
[email protected]