بعد تمرير التعديلات الدستورية في جو لم يخل طبعا من التزوير على رأي البعض، وصرف أموال طائلة لكسب رهان هذا الاستفتاء المتعسف، حسب وجهة نظر الكثيرين في أوساط المعارضة وغيرها.
أقول بعد تمرير هذا التعديل الدستوري، لن تتأخر كثيرا الجهات المعنية حزبيا وفي مستويات أخرى متنوعة، للتحضير لتمرير تعديل دستوري آخر، أكثر إثارة، وعن طريق الجمعية الوطنية هذه المرة، وهي في تقييم البعض مكب المصفقين وأصحاب الولاء المضمون في أغلب الأحيان،
ولو نجح الديناصور بوعماتو في خلخلة بعضهم، وربما إحداث مفاجئة أخرى أقل مما حصل في مجلس الشيوخ، لتبقى هذه الخلخة في حيز لا يمنع من تمرير التغيير الدستوري المرتقب الهادف أساسا لفك قفل المأمورية، القاضي دستوريا بعدم تجاوز عهدتين رئاسيتين.
وسيرتفع ثمن الرأس البرلماني الواحد، على غرار ربما ارتفاع سعر الكباش أيام الأعياد، بحكم التنافس بين أنصار "المخزن" في هذه الغرفة الوحيدة المتبقية وعملاء رجل الأعمال المثير الهارب محمد ولد بوعماتو، الذين قد يضطر لمضاعفة التستر على وسطائه بعد اعتقال غده ومحاولة استجلاب الدباغ، وإن لم يمنع ذلك البعض من البرلمانيين وغيرهم من أدعياء المهنة الإعلامية والسياسية وبعض عناصر الجيش قبض الثمن من شبكة بوعماتو النشطة في هذه الفترة، سواء صوت البرلمانيون منهم بعد ذلك بلا أو نعم وراء الستار حين الاقتراع الحساس، الذي ستعد له جميع الجهات المعنية كل حسب منشوده، لكن معطيات متعددة ترجح نجاح تعديل عزيز المنتظر الذي أدعى أنه خيار الشعب المتحكم في الإقدام عليه وتركه، لكن هذا التمرير غير المستبعد لصالح توجه الحكومة الحالية سيتم فقط بشرط رفع مستوى السخاء والإقبال - ولو بصورة متوسطة - على برلمانيي الجمعية الوطنية وغيرهم من المعنيين باللعبة المعقدة، لضمان تجاوز بورصة الموالاة وحراك المعارضة الداخلي والخارجي، المالي السياسي والإعلامي.
لقد حمي الوطيس، وسيكون هذا التعديل على مستوى هذه الغرفة البرلمانية، الأكثر إثارة أخلاقيا وقانونيا في تاريخ البلاد للأسف البالغ، منذ إقرار دستور 20 يوليو 1992، بعد انطلاق التعددية الحزبية والإعلامية في موريتانيا، أو المسلسل الديمقراطي كما يحلو لأدعياء الديمقراطية في موريتانيا أن يسموه، وقبل ذلك وبعد ذلك، وفي جو مشحون نشط بامتياز، ستتكرر بعد أيام فحسب حملة التعديل والتبديل المثير للشفقة والسيناريوهات والمخاوف المتعددة بمناسبة هذا التغيير الدستوري المحتمل على مستوى الجمعية الوطنية، ومحل الجدل منذ سنوات تقريبا.
فريق يدعي أهمية الاستقرار مع الحكم المحسوب على العسكر، وبغض النظر عن ما يحصل من تلاعب بالدستور، الوثيقة الأساسية في حكم أي دولة في الدنيا، ويستشهد أنصار هذا التوجه بقائمة طويلة من المسوغات، وعلى رأسها خطورة محاكاة منزلق دول عربية وإفريقية عدة، بدأت احتجاجاتها وثوراتها سلمية، ثم انتهت صدامية دموية ممزقة محيرة، يقول لسان الواقف عليها، لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أقبلت على هذا، ولقبلت خمسين تعديلا أو مائتي رئيس بزي مدني خادع، يخفي خلفية عسكرية استبدادية مستحكمة، فأفضل لي التعايش معها مهما صدر منها من فتن ما لم تصل إلى الكفر البواح وترك الصلاة على رأي بعض علماء السنة "ما لم يجاهر فيكم بترك الصلاة والكفر البواح"، من أن أعايش ما حصل لغيري من تقتيل واغتصاب يدمي له القلب ويحول الحياة إلى مصائب وقلاقل لا تتوقف مؤقتا إلا لتتجدد.
ويستشهد الفريق الآخر من مسوغي الفتن على رأي البعض والتلاعب بالنار ومغامرات المجانين على رأي البعض، بأن الحكم تعاقدي بين الحاكم والمحكوم، ينفرط وينفسخ بمجرد إخلال الحاكم ببعض أهم مقتضيات الحكم الرشيد، ضمن تحليل لا يستهان به، يخوض في مدى تحقيق هذا الحكم المتمرد على العقد المذكور للكليات الخمس أو ست، وفق تبيين العارفين بأصول الدين الإسلامي الخاتم "النفس، الدين، العقل، المال، العرض" زاد بعضهم بسادسة هي "النسب"، وربما يقابلها في العهود المعاصرة "سلامة الحالة المدنية".
ولا يستبعد مهما حصل من تجاذبات وجهود لتغليب الخيار الثاني، أن يتغلب أصحاب خيار الحسم الأمني، بسبب فتاوي معروفة راسخة في الوسط السني المالكي منذ قرون وكذلك بسبب ضعف الشارع وعدم الرغبة في الذهاب بعيدا في مسار المواجهة العنيفة، نحو مصير معتم مجهول، على احتمال وتوقع راجح على رأي البعض.
لكن السؤال المطروح ببساطة، أيهما أولى، إبقاء القفل الدستوري بأي ثمن، ولو كان حرق الوطن كله، أم إجازة حكم استبدادي على رأي البعض، تفاديا - تحت ضغط الفتن والتجاذبات- لاختفاء موريتانيا كليا من الخريطة.
الجواب الصريح على السؤال المثير الكبير حرج، على مذهب البعض حين ما قال بالحسانية الممزوجة بالعربية: "الكذب حرام والحك ما ينكال"، والحق هنا ربما تعني البوح والتصريح بمحصلة ظاهرة في الأفق قبل وقوعها، لكن عدم الاعتراض عليها، قبل تحققها على أرض الواقع، ربما يكون تشجيعا لفساد عريض، والسكوت في هذا الموضع ولو مؤقتا قبل انجلاء غبار المعركة الكبرى المرتقبة المؤكدة، قد يكون جزءا من قولهم "الحك ما ينكال"، وقد يفسر ذلك بعضنا ببعض الحق لا كله.
ونحن هنا على مذهب "مغسول" كما يقال بالحسانية أو ممجوج ثقيل بعبارة عربية، نحاول إيصال المعنى المفترض لغير النخبة، أما أهل ايكيدي ومن يحاول لغتهم الرفيعة، من السهل الممتنع مهما كان غموضه عند البعض.
فالطعم والذوق الرفيع في ترك حكمهم "الايكيدية" على عذريتها، دون تعسف في الشرح، الذي قد يجانب المقصود الأصلي غالبا، لصعوبة فك رموز هذا القاموس "الكبلوي الايكيدي" خاصة، الذي يستحق تأملات عريضة ومجلدات كثيرة، وهو دليل عبقرية ونبوغ فطري لا حد له، من محض من الله وفضله، ويستدعي في نظري مسحا شاملا للظروف التي نشأ فيها هؤلاء ودعوي ظهور هذا الأسلوب وتأصله في القوم الموهوبون ما شاء الله.
وأقول بأسلوب أكثر صراحة، حول الإشكالية الرئيسية في هذا النص، موريتانيا ستكون وقتها بعد السماح بالمأموريات المفتوحة عبر إلغاء القفل الدستوري المذكور، مجرد كيان وحديقة خلفية للبعض، وقعوا لأنفسهم دستورا جديدا لا يرقى إلى درجة الإقناع القانوني ربما، وإنما يسمح بالبقاء أكثر في الحكم بحجة "مواصلة الانجازات" والمسار والورشات التنموية المروج لها في كل مجال، عبر أبواق النظام المختلفة، الصادقة أو الزائدة أو حتى الكاذبة أحيانا.
بل ويدعي البعض أن المتغلبين الحاليين على الحكم لن يبتعدوا كثيرا عن الغاز المسيل للعاب، الذي من المتوقع بدأ استثماره سنة 2021، السنة الثانية فقط من العهدة الرئاسية المقبلة، والثالثة ربما لصالح الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، مع ما قد يصاحب ذلك من امتعاض واعتراض، أخاف أن يكون مؤقتا عابرا بسبب ضعف الذاكرة الجمعية عندنا، وقد يكتفي كثير من أبناء هذا الشعب الجائع، بمحاولة الحصول على نصف أو ربع رغيف ملوث بالمن والأذى والاستبداد والقبضة الحديدية، من هذا الغاز، المنتظر، الذي من أول من وعد ببعض ريعه مهنة "صاحبة الجلالة" إبان المؤتمر الصحفي الأخير، عندما طالبوا بزيادة الدعم، فرد عليهم ساخرا أو جادا بما في ذهنه راسخا "ايرد فيه التخمام دائما"، بانتظار استخراج الغاز القادم.
ولعل التعديلين "غازيين" في المآل والمبتغى، الأول الممرر للتو والثاني المرتقب الراجح التمرير. بل من غرائب القصص المختلقة أو الحقيقية الشائعة الترديد في الصالونات، أن وسطاء الغاز الأربعة الرئيسيين، من النسب العزيزي الشريفي، ويحملون أوراق ثبوتية أجنبية، تفاديا للملاحقة القانونية يوما ما على رأي البعض.
وتقول هذه القصة الغريبة غير المقنعة على رأي البعض وغير المستبعدة على رأي الآخرين، أن النتيجة العظمى من عطايا ورشاوى استخراج "شفروه" الأمريكية و"ببى" البريطانية، بنسبة 90 بالمائة من الغاز الموريتاني المنتظر، ستؤول إلى – أي الرشاوى- المدعاة، إلى حسابات خفية بأسماء هؤلاء الأربعة، وثيقي الصلة برأس النظام فقط، أما نسبة 10 بالمائة للدولة الموريتانية، فربما فقط حبر على ورق، لإجازة أوراق العقد، وهي أي هذه النسبة الأخيرة عرضة للتحايل السهل، ولاشك أن هذا إن صدق بعضه فلا يخلو من مبالغة هشة النسيج.
ويدعي هؤلاء المروجون ضد النظام الحالي المتنكرين لكافة ايجابياته مهما كانت ناقصة، ويبالغون في سلبياته، ويجعلون من الحبة قبة، أن الدافع الرئيسي للبقاء في الحكم هو محض الطمع في الاستفادة الشخصية لصالح الحاكم والمجموعات المحسوبة عليه، من الثروة الغازية في منطقة الحدود البحرية بيننا ودولة السنغال الشقيقة، والتي يجمع الخبراء العارفون بخفايا النفط والغاز أنها ثروة واسعة، فعلا تستحق التخطيط الداخلي والخارجي لبقاء جهة بعينها في الحكم، لوقت معتبر لضمان مصالح الشركات المعنية.
فهل بات العبث بالدستور وتخريب وإلغاء قفل العهدتين الرئاسيتين، محل مباركة من قبل أمريكا "كوسموس" سابقا و"شفروه" لاحقا، وبريطانيا "ببى"، وحتى فرنسا من خلال مصالح "حوض تاودني" وغيرها من اعتبارات النفوذ والتبعية التقليدية والمنافع المختلفة؟، وهل باختصار في نظر هؤلاء المستثمرين الكبار، بقاء موقع العقد الحالي في دفة الحكم بصورة مفتوحة، وعلى غرار تجارب افريقية معروفة، ضمانا ملحا محل اتفاق حتى لا يتلاعب القادمون الجدد بمزايا الاتفاق مع هؤلاء الشركاء؟
إذن اللعبة أكبر مما نتصور، أم هو وهم التبرير والتسويغ المكشوف الهش، أو لا هذا ولا ذاك، وإنما خليط ومزيج ضمني يجري العمل به، دون أن يصرح به، ويستفاد منه إلى حد بعيد بمقتضاه سياسيا وماديا وغير ذلك.
وعود على بدأ، أقول لا استبعد شخصيا، تمرير التعديل الدستوري، المتعلق بإلغاء قفل المأمورية، وفتحها لصاحب الحظ المقصود، سواء كان الحاكم الحالي وذلك أرجح أوغيره، وقد يكون تمرير إلغاء القفل أسهل مما سبق من تعديل.
ولقد وعدتنا المعارضة بإجهاض التعديل الممرر للتو، وهي في أمر التوعد بإجهاض الثاني المنتظر أضعف، لأنها حسب أنصار عزيز ضعيفة قليلة التأثير، ربما لاحظ لها، إلا أن تلقي بنفسها في البحر وتذهب في خبر كان، وربما أيضا لأن أهل موريتانيا ضعاف، يتهيبون المغالبة العنيفة، ويحتجون جميعا بفتاوى معروفة كما ذكرت سابقا، ترجح اختيار السلامة والعافية على المغامرة والانتحار الجماعي على رأي البعض، ويقول البعض إنه لا يستغرب عشر سنوات ربما عبر عهدتين أخريين لصالح الحاكم الراهن الذي حكم البلاد حكما غير مباشر، منذ يوم الأربعاء 03 أغسطس 2005 إلى اليوم.
لكن علم الغيب عند الله والأمر كله بيده.
اللهم لا تكلنا إلى اختيارنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، وأبعدنا عن شبح المأموريات العبثية المفتوحة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.