تعاني موريتانيا منذ نشأتها من عدة مشاكل اقتصادية و اجتماعية و سياسية تشكل خطرا كبيرا على وجودها كدولة وطنية تنمو و تتطور بشكل طبيعي و آمن، وقد فشلت كل الأنظمة السابقة -رغم بعض الجهود الصادقة هنا وهناك - في حل هذه المشاكل و النهوض بالدولة الموريتانية إلى مراتب الدول المتطورة السائرة على طريق النمو السليم بشكل يضمن وجودها ككيان مستقل يتمتع فيه مواطنوها بالكرامة و المساواة و العدل و الإحترام .
إن المتتبع لمسار الدولة الموريتانية سيدرك أن السبب الرئيس في هذا الإخفاق هو عدم قدرة الموريتانيين على إنشاء نظام سياسي ديموقراطي وطني صحيح قابل للتطور الطبيعي و محافظ على المكتسبات الوطنية بل ساهر و بصفة تلقائية على تطويرها و تنميتها، فأصبح أي حكم جديد يفرزه هذا النظام السياسي المختل - رغم كل الشعارات الجذابة و الوعود المغرية - لا يهمه في الحقيقة إلا أن يلعن الحكم الذي سبقه بل و يجعل منه مخبأ يأوي إليه هربا من كل إخفاقاته و تنصلا من كل مسؤولياته تجاه الدولة و المجتمع و ذلك منذ الحكم الفردي رغم التأسيس مرورا بالإنقلابات العسكرية الهدامة رغم التبريرات و الإنتخابات الديموقراطية المخجلة الكاذبة و التناوب السلمي الملغوم المزيف و انتهاء بالإستخلاف العشري الساذج الغامض و الذي نسميه اليوم -إفلاسا و سقوطا و تضليلا- تناوبا ديموقراطيا وإنجازا وطنيا عظيما نبحث منذ أزمة المرجعية عن من ننسبه إليه، جاعلين من أنفسنا أضحوكة يتندر بها العالم و أقصوصة يرويها التاريخ لأجيال تحسن الإستماع.
إن ما يحصل اليوم بين الرئيسين "الصديقين - العدوين" السابق و الحالي عزيز و غزواني ليس إلا مولودا جديدا مشوها أفرزه نظامنا السياسي المختل، مثل ما أفرز لنا الإنقلابات المتخلفة و الإنتخابات الكاذبة و التناوب السلمي الملغوم لتظل الدولة تراوح مكانها و يظل كل حاكم جديد و بدعم من "النخبة" يتفنن في رفع الشعارات الكاذبة و تنفيذ السياسات الخاطئة و تضليل الداخل و الخارج على حساب مصلحة الجمهورية وذلك من أجل ممارسة التحكم و ليس ممارسة الحكم في مجتمع أهدر الوقت و المال حد الإفلاس ولم يعد يساير متطلبات العصر و تتربص به مخاطر الأمية و الفقر و الشرائحية و الجهوية و القبلية و تطرف الخطاب و استسلام النخبة و إفلاس بعضها و تخبط المعارضة و عجزها عن اكتشاف الخلل الحقيقي و الإصطفاف وراء المطالبة بتصحيحه هذا فضلا عن المخاطر الخارجية في وقت أصبح فيه العالم قرية واحدة تتداعى فيه إقتصادات الدول الغربية بسبب فيروس في أقصى الدول الشرقية و هو لعمري أمر لن يمر مر الكرام و ستنعكس ارتداداته بكل قوة على العلاقات الدولية في عالم جديد بدأ يتشكل.
لا تهمني حقيقة ما حدث بين الرئيسين كما لا يهمني ما سيؤول إليه الصراع بينهما إطلاقا بقدر ما تهمني تجلياته السلبية و انعكاساته الخطيرة على حياتنا السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و المؤسساتية و الأخلاقية. لم يعد لدينا وقت للمجاملة و المحاباة فكيان الدولة أولى و مصلحة الوطن أسمى.
ظل الرئيس غزواني وفيا و مخلصا للرئيس عزيز طيلة سنوات حكمه (رصاصة اطويلة و الثناء حد الحنين أثناء حفل التنصيب خير دليل على ذلك)
كما ظل الرئيس عزيز يثق ثقة تامة في صديقه الوفي حتى آخر أيامه الرئاسية حيث أثنى عليه كثيرا و دعمه بكل قوة في حملة الإنتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها، و فجأة تغيرت الأمور و انقلبت رأسا على عقب، فبالنسبة للرئيس عزيز لم يعد غزواني ذلك الصديق الحميم و الرجل الوطني الذي بشر به الشعب وحذر مواطنيه من انتخاب غيره كما لم يعد عزيز بالنسبة للرئيس غزواني ذلك البطل الوطني الذي بنى الدولة و حقق المعجزات بل تحول و بكل بساطة إلى متهم بالفساد تجب محاكمته و مصادرة أمواله و مضايقة حريته في التحرك و ممارسة السياسة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل انقلب البرلمان و الوزراء وقادة و منظروا العشرية على أنفسهم و أضحوا يتسابقون إلى شتم وتخوين و اتهام من كانوا بالأمس القريب يصفونه بمحقق المعجزات والبطل الوطني و المخطط العبقري الذي يستحق مأمورية ثالثة لإستكمال مخططاته و ذلك رغم وضوح و صراحة الدستور في هذا الصدد.
هنا أقف منزعجا عند هذا المشهد لأشير إلى مدى عمق الخلل في نظامنا السياسي الذي أفرز لنا هكذا منتخبين و قادة رأي يتفننون في التناقض و التضليل بدل الإستقامة و الصراحة و أنبه إلى ما فيه من مرارة لكل موريتاني لا يرضى لرئيسيه السابق و الحالي بهذا المستوى من التخبط و التناقض كي لا أقول شيئا آخر، و مع ذلك سوف نلتمس لكل منهما أحسن المخارج.
بالنسبة للرئيس عزيز فأحسن أحواله أنه كان صادقا مع الشعب و اختار من بينهم أحسنهم، بعد أن خبره أكثر من ثلاثين سنة، لخلافته في تدبير شؤون الدولة ثم تبين له أنه اختار رجلا يسير بالدولة نحو المجهول و ويقوم بهدم كل ما بناه طيلة عشر سنوات و هو أمر أخف ما يقال عنه إنه خطأ فادح في التقدير لا يعذر صاحبه، (اتقشمية امتينا) لا تليق برئيس الجمهورية و لا حتى بأي سياسي يريد أن يتولى تسيير الدول وقيادة الشعوب ومع ذلك فإن نظامنا السياسي لم يستطع أن يمنعه من التربع على هرم السلطة كرئيس للجمهورية أكثر من عشر سنوات.
أما بالنسبة للرئيس غزواني فاحتماله الأول أنه لم يكن على علم بما يحصل من فساد في عهد صاحبه و تفاجأ عندما اطلع عليه أثناء ممارسته لمهامه كرئيس للجمهورية وهذا أمر مستبعد جدا بحكم موقعه الفعلي و ليس الدستوري خلال العشرية (الرجل الثاني) لنتحول إلى الإحتمال الثاني و هو أنه كان شريكا أو متعاطفا أو ساكتا على هذا الفساد الكبير حتى لا يفسد عليه فرصة الوصول إلى الحكم و بعد ذلك بدأ ،كسابقيه، بدلا من ممارسة الحكم في ممارسة التحكم و التي تقضي تلقائيا بتصفية كل من يهدد عرشه فبدأ بصديقه الذي يعتبره أكبر تهديد لاستمراره في الرئاسة و خصوصا بعد أزمة المرجعية و إصرار الرئيس عزيز على ممارسة السياسة و هذا الإحتمال لا يليق برئيس يسعى إلى بناء دولة في أشد الحاجة إلى البناء و مساعدة شعب مسلم مسالم من أفقر شعوب العالم.
لم يبق أمامنا إذن إلا احتمال واحد للرئيس غزواني و هو أحسن المخارج الذي وعدناه به. يفضي هذا الإحتمال إلى أن الرئيس غزواني كان على علم بما يقوم به صاحبه فوجد نفسه أمام ثلاث خيارات، أن يقدم استقالته احتجاجا على الفساد وهو ما قد يعرضه للإعتقال التعسفي دون أن يساهم في إيقاف الفساد القائم. أن يقوم بمحاولة انقلابية لم يتأكد من نجاحها و لا نجاعتها في بلد لازال يكتوي بنار الإنقلابات وعالم يرفضها و يعتبرها من أكبر مظاهر الدولة الفاشلة. أن يظل جزء من هذا النظام نظرا لحجم المسؤولية الأمنية التي أسندت إليه و حاجة البلاد الماسة إليها خصوصا بعد تدهور الأوضاع في دول الساحل و تصاعد وتيرة الإرهاب في المنطقة بعد الإنهيار الليبي و نظرا كذلك لقرب خلافته لصديقه حتى يتسلم مقاليد الحكم، حينها يخرج روحه و حسه الوطنيين و يقوم بإصلاح ما أفسده صاحبه و يشرع في بناء الدولة على أسس سليمة تسمح لها بالبقاء و النمو و الإزدهار و هو ما نأمله منه و نرجو له التوفيق فيه و حينها يكون هذا المقال موجها إليه كي لا يقع في أخطاء سابقيه و يبدد وقتا ثمينا في معالجة مضاعفات الداء و ترك الأخير دون دواء.
إن إنقاذ بلادنا من مطاردة سراب الديموقراطية المدمر و مواصلة تحطيم ثوابت الجمهورية - آخر تجليات مظاهر فشل أنظمتنا المتعاقبة ونخبنا الفاشلة منذو التأسيس و حتى اليوم – و وضعها على الطريق الصحيح لن يتم إلا بإصلاح شامل لنظامنا السياسي، إصلاح يضع حدا للميوعة السياسية، إصلاح يضع حدا للفوضى السياسية، إصلاح يضع حدا للإفلاس السياسي، إصلاح يوضح الفرق بين المعارض و الموالي و بين النقابي و السياسي و بين شيخ القبيلة و السياسي و بين الحقوقي و السياسي، إصلاح يوضح الفرق بين الحزب السياسي بخلفية و أهداف وطنية و الحزب السياسي بخلفية و أهداف أخرى، إصلاح يضمن تناوبا سلميا حقيقيا على السلطة، إصلاح يضع حدا لعسكرة السياسة و يوضح الفرق بين ضابط في القوات المسلحة الوطنية و ضابط في جمع الأحلاف و تجميع الضعفاء و أهل البادية في معسكرات انتخابية غير دستورية ولا إنسانية، إصلاح يضع حدا للمحاصصة الجهوية الهدامة، الرئيس من جهة كذا إذن يجب أن يكون الوزير الأول من جهة كذا، و زير الداخلية من جهة كذا، يجب أن يكون وزير الخارجية من جهة كذا، أي فكر هذا الذي نربي عليه أجيالنا و ترضى به نخبنا؟ لا توجد جهة و لا شريحة و لا قبيلة ولا أسرة في الجمهورية إنما توجد جهة واحدة هي الوطن و قبيلة واحدة هي الشعب . إن استغلال المفاهيم التي تتناقض مع مفهوم الجمهورية و التعامل معها غير الدستوري و محاولة تطويعها لتواكب الجمهورية منذ نشأتها من أكبر أسباب فشلنا في تطوير الدولة و مواكبة التحديات فضلا عن القدرة على دخول عالم المنافسة و الإبتكار.
إذا كانت الجمهورية اللبنانية تنهار عاجزة عن تصور مستقبلها بسبب المحاصصة الطائفية الدستورية الممارسة سياسيا فإنني أخشى على جمهوريتنا من المحاصصة الجهوية غير الدستورية الممارسة سياسيا.
إننا نريد إصلاحا لا يعترف إلا بالمواطنة و الإنتماء إلى الجمهورية، إصلاح تنمو فيه الدولة و تتطور بحكم التراكمية -شرط تقدم أي عمل بشري- و ذلك مهما تعاقبت الأحكام و تباينت السياسات.
إن إصلاح نظامنا السياسي أصبح اليوم ضرورة من أجل البقاء و شرطا أساسيا لتطوير الحكم و مواكبة العصر و النهوض بالجمهورية كما أنه أصبح مسؤولية وطنية و أخلاقية يجب على الجميع تحملها و التضحية من أجلها. إننا أمام فرصة حقيقية لهذا الإصلاح السياسي في ظل حكم يعلن خيار التهدئة السياسية و ينتهج سياسة التشاور و شعب انكشفت أمامه النخبة و يدفع ثمن فشلها غاليا، و لكن كيف يتم هذا الإصلاح و من أين يجب أن يبدأ؟.
…يتواصل..
طابت أوقاتكم...
باب ولد الشيخ سيديا
خبير إقتصادي و سياسي
كندا يوم فاتح أغشت